تصريحات كيسينجر «الصادمة»، والمأساة الكوميدية؟
خلال الأيام العشرة الماضية، وفي حدثين مختلفين، تمت استضافة هنري كيسينجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، الأول هو مهرجان فايننشال تايمز، والثاني هو مؤتمر دافوس.
وفي كلا الحدثين، أدلى كيسينجر بجملة آراء حول الوضع الدولي الراهن وآفاقه، وخاصة أوكرانيا وتداعياتها. وقد اعتُبرت تصريحاته «صادمة» في مختلف الأوساط الغربية، وتلقت هجوماً واسعاً من أطراف شتى، إعلامية وسياسية.
بين جملة الآراء التي قالها، نذكر باختصار ما يلي:
• «يتعين على أوكرانيا التنازل عن أراضٍ لروسيا للمساعدة في إنهاء الغزو».
• «برأيي، يجب أن يبدأ التحرك نحو المفاوضات والسلام في الشهرين المقبلين من أجل تحديد النتيجة قبل أن تبدأ العواقب والصعوبات، والتي ستكون أكثر صعوبة في التعامل معها، بما في ذلك العلاقات بين روسيا وأوروبا وأوكرانيا مع أوروبا».
• «تحقيق الوضع المحايد لأوكرانيا وتشكيلها كجسر بين روسيا وأوروبا هو الهدف الرئيسي في الوضع الحالي». «النتيجة المثالية ستكون لو حلت أوكرانيا مكان دولة محايدة كجسر بين روسيا وأوروبا».
• «سيشهد الوضع الجيوسياسي العالمي تغييراً كبيراً مع انتهاء الحرب في أوكرانيا».
• «لن يكون بمقدورنا العمل على إحداث خلافات بين روسيا والصين».
محاولة للتفسير
حين يقول كيسينجر إنّ على الأوكرانيين أن يقبلوا بالتفاوض مع الروس وأن يقدموا تنازلات بما فيها التخلي عن أراضٍ من أوكرانيا، فإنّ الواضح تماماً هو أنّ المقصود هو المفاوضات ليس بين الأوكرانيين والروس، بل بين الأمريكان والروس، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فمن نافل القول إنّ قيادة أوكرانيا الحالية تعمل بإمرة مباشرة من الأمريكان، وقرار التفاوض والتنازل من عدمه يتم اتخاذه في واشنطن وليس في كييف.
بهذا المعنى، فإنّ كلام كيسينجر يمثل تياراً ضمن النخبة المالية الأمريكية، ترى أنّ الأمور لا تسير كما ينبغي، بل وأنّ استمرار سيرها في الطريق نفسه يشكل أخطاراً كبرى، بما في ذلك على «الوضع الجيوسياسي العالمي»، والذي يعني ضمناً الخطر على المنظومة المالية والسياسية العالمية، وخاصة الدولار.
تحديد أجل زمني لا يتعدى الشهرين للوصول إلى حل (أي إلى اتفاق)، أو للبدء به على الأقل، يوضح حجم الورطة التي يعيشها الغرب ومنظومته، ليس فقط لاقتراب الخريف وبعده الشتاء حين ستصل أزمات الطاقة والغذاء ذروتها، بل وأخطر من ذلك بالنسبة للنخبة العالمية، أنّ استمرار المواجهة يؤدي مع الوقت إلى تجذير موضوعي لعدة اتجاهات تطورية يمكنها أن تتجاوز في وقت غير بعيد نقطة اللاعودة، وأهمها:
أولاً: تعزز التحالفات بين الصين وروسيا ومجمل دول بريكس ودول الخليج وغيرها من الدول (أي الدول التي تنتج وتمتلك القسم الأعظم من الخامات في العالم على اختلاف أنواعها، ابتداءً بالنفط والغاز، ومروراً بالمعادن وضمناً الذهب، وليس انتهاءً بالمحاصيل الغذائية الأساسية).
ثانياً: تطور هذه التحالفات باتجاه وضع المنظومة المالية العالمية الجديدة الموازية موضع التشغيل الكامل، ما سيعني تقزيم اليورو والدولار معاً إلى مساحات أصغر بكثير من التي يشغلانها الآن، وما يعني انفجار تضخمهما الفلكي، بما يعنيه ذلك من أزمات داخلية في الغرب، بدأنا بالفعل نرى مقدماتها.
ثالثاً: استمرار المعركة، استمرار العقوبات، استمرار الحصار، يدفع موضوعياً، وسيدفع أكثر، نحو حسم كامل للمعركة السياسية داخل روسيا نفسها باتجاه الانفصال اقتصادياً ومالياً عن الغرب، وبكلام أدق: باتجاه ضرب المصالح والنفوذ الغربي في روسيا وبشكل أساسي القسم من الأوليغارشية المرتبط بالغرب. ما يعني فقد الأداة الأساسية التي يمكن استخدامها ضد روسيا من الداخل.
بإيجاز، فإنّ آراء كيسينجر، وإعلانه لها، يمكن أن يعني أنّ قسماً مهماً من النخبة الأمريكية، وبعيداً عن البروباغاندا الإعلامية، قد بات واضحاً أمامه إلى أين ستذهب هذه المعركة إنْ استمرت (وليس المقصود معركة أوكرانيا، بل معركة إنشاء نظام عالمي جديد). وهم لذلك يريدون إيقافها عند الحدود التي وصلت لها، ولا يرون سبيلاً لذلك سوى التفاوض وتقديم التنازلات، ولكن تنازلاتٍ تضمن ألا يستمر تطور التحالفات العالمية بالاتجاه نفسه الذي يسير فيه الآن... ومَنْ أفضل من كيسينجر، الذي أخذ شهرته من المساهمة في الوقيعة بين الصين والاتحاد السوفياتي، لإعطاء إشارة البدء بهذا الاتجاه...؟
يمكن القول إنّ الاتحاد السوفياتي -وإلى حد غير قليل- قد بدأ بالانهيار منذ حصلت الوقيعة بينه وبين الصين، وربما قد يبدو من السذاجة بمكان توقع أن يتم تكرار اللعبة نفسها مرة أخرى في القرن الواحد والعشرين عبر محاولة تقديم بعض التنازلات لروسيا بالتوازي مع التصعيد ضد الصين في مسألة تايوان وغيرها من المسائل... وإذا كان «التاريخ يعيد نفسه، مرة بصورة تراجيدية، والثانية بصورة كوميدية»، إلا أنه في الانعطافات الكبرى قد يعيد نفسه بصورة مركبة من تراجيديا جليلة ومهابة، ومن كوميديا هزلية حد السخف، في الوقت نفسه وعلى الخشبة نفسها...