على طريق الفساد العام: هدر، عمولات، وصفقات مشبوهة معاقبة من يحاول كشف الفساد ويوفر الملايين لخزينة الدولة
من الواضح تماماً أن قوة ونفوذ أساطين الفساد في شركات ومؤسسات القطاع العام قد خرجت عن السيطرة، بعد أن نهبت ولا تزال تنهب المال العام على حساب التنمية والمجتمع. وحين يبشرنا النائب الاقتصادي ووزير الصناعة ووزير المالية بحجم استثمارات القطاع الخاص، ودوره في إدارة الاقتصاد الوطني من خلال استثماراته ومن خلال التشاركية مع القطاع العام، هذا يعني أنهم يؤكدون الفشل والعجز عن الإصلاح الإداري، والهروب من المشكلة إلى الأمام.
لم يقم القطاع الخاص بدوره الوطني في إقامة مشاريع إنتاجية، ولم يكن بديلاً جيداً عن الدولة، ونتائج الخطة الخمسية العاشرة تقدم أرقاماً ووقائع عن دور القطاع الخاص وحجم استثماراته التي تمحورت في نسبتها الأكبر في القطاعات الخدمية والريعية السريعة كالعقارية والربوية، وتقف الحكومة مكتوفة الأيدي وفي حالة عجز عن محاربة فساد يعشش في مفاصل القطاع العام، وعن مافيات تكونت عبر سنوات لمدراء اغتنوا على حسابه.
فشلت الحكومة في الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد وخفض كلفة المشروعات، وعملت على التحول إلى الليبرالية وخلط الأوراق والمفاهيم، والتبشير بالرفاه القادم بعد ربع قرن من الآن.
الوجه الأخطر للفساد نراه من خلال قرارات تصدر عن رئاسة مجلس الوزراء بعزل صغار الفاسدين ومحاسبة بعضهم، بينما الفساد الأكبر يُرتَكَب علناً بمعرفة الحكومة وأحياناً تحت رعايتها وفي ظلها، وأحياناً ترصد أجهزة التفتيش بعض هذا الفساد وتقدم تقاريرها ولكن أكثرها يخبَّأ في الأدراج، لنجد هذا الفاسد بعد أشهر أو سنوات ينطلق من جديد وكأنه وقع على مزراب من ذهب، وللمواطن الحق في أن يقول «لقد تم تبادل الغنائم والحصص».
ما المبررات المنطقية والقانونية؟
موظف في شركة استراتيجية هامة كشف سرقات واضحة بالمليارات ورفع وثائقه وتقاريره إلى المؤسسة التي لم تقم بدورها، وإلى الوزير الذي لم يقم بدوره، وإلى رئاسة مجلس الوزراء وكانت المحصلة تسريح هذا العامل وتشريده وعائلته، وخاطب رئيس الوزراء المؤسسة والوزير ولم يرجع إلى عمله بل عوقب.
وفي الشركة العامة للأسمدة تتم سرقة الملايين سنوياً منذ تأسيسها، نتيجة التلاعب بعروض الأسعار بين بعض المتنفذين في بعض جهات القطاع العام وبعض المدراء في الشركة، عبر صفقات مشبوهة بلغت قيمتها أضعاف القيم الحقيقية للمواد المصنعة. حيث يقوم بعض الفاسدين بالتنسيق مع لجان المشتريات بتأمين اعتذارات وهمية من جهات القطاع العام، لتأمين تصنيع معظم القطع التبديلية في القطاع الخاص وبقيم خيالية. ومديرية الرقابة الداخلية لا يهمها واقع الشركة ولا تحس بما يجري فيها من تلاعب وسرقات في وضح النهار، ولم تحرك ساكناً.
رغم إعلان الإدارة الجديدة عن عزمها إعادة النظر بالعقد الموقع مع الإسكان لتصنيع البكر للسيور الناقلة، فإن ذلك لم يحصل، بل جرى تخفيض الأسعار فقط بنسب تراوحت بين 10% ـ 20% بينما يجب أن يتم التخفيض حسب أسعار السوق الحقيقية حسب ما يلي: سعر كيلو الحديد المصنع × وزن البكر فقط.
على الورق للإيهام فقط
ـ أعلنت الإدارة الجديدة عن عزمها تصنيع بعض أنواع البكر في الشركة ولكنها لم تفعل حتى الآن بسبب رفض إدارة قسم التصنيع.
ـ وأعلنت عن استعداها لاستبدال عناصر المشتريات ووضع آلية جديدة لتحديد الأسعار ودراستها قبل الشراء، ولم تقم بشيء.
ـ قدم إلى الشركة وفد فني رفيع المستوى من إحدى جهات القطاع العام وأعلن أنه مستعد للالتزام بتصنيع وصيانة جميع القطع التبديلية بعقود دائمة ولكن الإدارة حتى الآن لم تحرك ساكناً لأن المديرية الفنية لا تريد ذلك.
ـ أعلنت الإدارة الجديدة السير في دراسة الجدوى الاقتصادية لإنشاء معمل أكياس في الشركة العامة للبلاستيك «رغم أنه موجود» ولكن لا يزال التاجر يقبض مئات الملايين ثمن أكياس سنوياً.
ـ العامل (س.ك) رئيس لجنة القطاع العام في شركة الأسمدة يكشف ألاعيب لجان المشتريات مع القطاع الخاص وبعض رؤساء الأقسام وبعض المدراء، وأذهلته الأرقام التي يتم التلاعب بها، ويكشف بحسه الوطني والطبقي مدى ما وصل إليه الفساد، ويتساءل عن القيم الكبيرة في تصنيع البكر، ولماذا يتم طلب الأعداد الكبيرة منها؟ وأين تذهب البكر القديمة؟ ولاحظ فقدان معظمها.
منذ حوالي /20/ عاماً تم وقف استيراد البكر للسيور الناقلة في مختلف أقسام الشركة في معاملها الثلاثة بسبب إمكانية تصنيعها محلياً. وتم الاتفاق مع جهة محددة باسم القطاع العام على أسعار غير مقبولة تتراوح بين 57500 ـ 60000 ل.س للبكرة الواحدة، بينما الكلفة الحقيقية لا تصل إلى 30% كحد أقصى من هذه القيمة. وتكررت الطلبات بحدود 1000 بكرة تقريباً، وتتكرر سنوياً. والاعتقاد أنه يتم إخراج البكر المعطلة دون الكشف عليها لإعادة عزلها بالمطاط أو البوكاليت وإدخالها كتصنيع جديد. وجرى اكتشاف أن بعض المسننات تم تصنيعها في القطاع الخاص بعد تأمين الاعتذارات اللازمة الوهمية من القطاع العام، مثل تصنيع مسنن واحد بقيمة 1.2 مليون ل.س، في حين تم تصنيع ثلاثة مسننات وبقياسات مختلفة في إحدى جهات القطاع العام بقيمة 122000 ل.س.
ووصلت الأمور إلى مستودعات القرطاسية والعدد واللوازم المستهلكة مثال: نسلات منشار يدوي وآلي، بخاخات إزالة الصدأ، ورق سمباذج، قرطاسية مختلفة من جلدات قيد وغيرها، وحتى ظروف البلاستيك بضعف الأسعار الحقيقية، ويتم إدخالها وإخراجها على الورق، ووصل سعر ظرف البلاستيك إلى 100 ل.س بينما سعره الحقيقي 10 ل.س.
والسؤال المطروح: أين الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش؟ أين وزير الصناعة؟
تجاذبات بين الفساد والتصحيح
سنوات طويلة وأكثر من 18 مديراً تناوبوا على الشركة ولم يسأل أي مسؤول عن نتائج أعمالهم، علماً أن واحداً منهم فقط قام بضبط الهدر وتخفيض استهلاك معظم المواد المساعدة للإنتاج، وتوفير الطاقة وإنتاج الطاقات التصميمية لبعض المعامل والحد من التلوث وتطوير الحوافز الإنتاجية وتطوير البحث العلمي في جميع معامل الشركة، ونقل الشركة من الخسارة إلى الربح، ولكن تم عزل هذا المدير لأنه قطع أرزاق مافيا السرقة والنهب والفساد.
والآن العامل (س.ك) في شركة الأسمدة يعزل من عمله بقرار من المدير العام لأنه كشف صفقات الفساد في الشركة، فقد تم الكشف عن مستودع مهمل فيه مواد استجرت منذ سنوات دون الحاجة إليها وتبلغ قيمتها أكثر من مئة مليار ل.س، تضم مواد غالية الثمن مثل الكروم والنحاس بقيمة 11 مليار ل.س، وكابلات كهربائية توتر عالي بقيمة 180 مليون ل.س، وكميات كبيرة من الدهان بقيمة 174 مليون ل.س أصبحت فاسدة وعديمة الجدوى، وكميات كبيرة من الأسمنت والآجر الحراري المهدور رغم غلاء ثمنه، وانتهت مدته أيضاً. ولا يُعرَف سبب وجود هذه المواد التي لا لزوم لها لقسم الأعمال المدنية، وقد فوجئ المدير العام الحالي بما رآه في هذا المستودع الذي دعاه إليه العامل (س.ك).
استجاب المدير العام في البداية للعامل (س.ك) فأصدر قراراً بوقف استجرار الزيوت والشحوم من القطاع الخاص بقيمة تتراوح بين 1 ـ 3 مليون ل.س شهرياً، وانخفضت كمية الشراء إلى 150000 ل.س فقط وهذه هي الحاجة الفعلية. وتم إيقاف استجرار المطبوعات من القطاع الخاص وانخفضت الكلفة من 2 ـ 3 مليون ل.س، إلى 10000 ل.س شهرياً وهذه هي الحاجة الفعلية.
تم تخفيض 10 ـ 20% من أسعار تصنيع البكر بعد أن وجه العامل المذكور أكثر من كتاب إلى المدير العام لتصنيعها في الشركة حيث تصل قيمة المستجرات من البكر إلى 60 مليون ل.س، بينما هناك إمكانية لتصنيعها محلياً. وانخفضت قيمة الشراء المباشر عن طريق المشتريات من القطاع الخاص من 16 مليون ل.س إلى 640 ألف ل.س شهرياً. وانخفضت طلبات التصنيع الخارجي بنسبة تزيد عن 70%. وبشكل عام ما تم توفيره من نفقات يزيد عن 20 مليون ل.س شهرياً.
لم تتم مساءلة أي مدير عن هذا الخراب ولم يحاسَب أحد، بل تم عزل العامل الذي كشف الصفقات والعمولات من موقعه بدلاً من مكافأته. بينما هناك مدير سابق لمعمل الأمونيا يوريا، وبحقه عقوبات تفتيشية تمنعه من تبوء أي موقع، ورغم ذلك تمت مكافأته وعين مديراً عاماً لشركة عامة.
وأخيراً أُلقي القبض قبل أيام على عناصر من شركة الأسمدة، بعد أن تم ضبط شاحنات محملة بالمواد الأولية في مستودعات الشركة وتهرب إلى لبنان، وكانت 90% من المهربات من مادة الكروم غالية الثمن.
معلومات للتحقيق والتفتيش والمحاسبة، فهل هناك من يفعل؟!!