السياح «المقرفون»..

السياح «المقرفون»..

لم يصدق عينيه للوهلة الأولى، لكن ملمس الرمال وأصوات الأمواج العاتية كان أوضح من أن يتجاهله المرء، كانت رحلة طويلة ومتعبة، لم يتوقع أن يشهد لها نهاية على الإطلاق، إنها «أوروبا» أخيراً، وها هو يخطو بحذر على شاطئ القارة كمستكشف تغمره الِغبطة، سرعان ما يلتفت نحو رفاقه ضاحكاً وهم يهمّون بالنزول من القارب، لكن وجوههم بدت شاحبة متجهمة، يمسح أحدهم دمعة خجولة ويرفع وجهه نحو السماء، بينما يحمل آخر طفلاً لم يتوقف عن البكاء لساعات، تصدم الحقيقة صديقنا الشاب للمرة الألف، إنها ليست نهاية الرحلة المتعبة، إنها البداية فقط..

 

حصدت جزيرة «كوس» اليونانية الكثير من الشهرة هذه الأيام، لا يعلم بأمر هذه الجزيرة الساحرة سوى قلة من أثرياء أوروبا، فهي مقصد سياحي بامتياز يعم بالزوار كل صيف، شواطئ بيضاء ونسيم بحري عليل يسحر كل من يقصدها، لكن اسم هذه الجزيرة بدأ يتردد هذه الأيام وبكثرة، هي الجزيرة اليونانية الأقرب إلى تركيا والتي تستقبل اليوم أكبر موجة من النازحين في تاريخها، كما بدأت القوارب الوافدة من ليبيا ومعظم دول شمالي أفريقيا باعتبارها المحطة الأوروبية الأولى على جداول رحلاتها الطارئة، بدأت الجزيرة تمتلئ بسرعة، وأصبح ظاهراً للجميع بأن السلطات المحلية لم تعد قادرة على استيعاب هذه الأمواج البشرية المتلاحقة، افترش الناس هناك الشوارع والحدائق والشواطئ، وأصبح «الغرباء» في كل مكان، وأصدر الصليب الأحمر الدولي تقارير مخيفة تظهر تعداد جديداً للمهاجرين إلى اليونان بالذات، أظهرت الإحصائيات أعداداً خلال خمسة أشهر فقط يفوق بكثير ما تم إحصاؤه طوال السنة الماضية بكاملها!

صدمة..! 

فلندع كل ذلك جانباً ودعوني أخبركم عن أمر لا تعرفونه، فقد نشرت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية تقريراً صادماً، يتحدث بكل بساطة عن حال الجزيرة السياحي في ظل هذه الأزمة الطارئة، نعم.. هناك وقت للحديث عن السياحة هناك وبالأخص في بريطانيا، التي تعتبر جزيرة «كوس» بالذات مقصدها الأول طوال عقدين من الزمن، يبدأ التقرير بسؤال «آن سيرفانتي»-الممرضة من «مانشستر» وإحدى السائحات البريطانيات- عن حال الجزيرة بعد تدفق تلك الأعداد من المهاجرين، فتجيب بكل بساطة: «إنها مقرفة!»،وتضيف على الفور: «إنها الآن قذرة ومليئة بالفوضى، لا أستطيع الجلوس في المطعم وأنا أرى جميع أولئك الناس ينظرون إلي من الشارع»، يشارك «آن» في رأيها العديد من السياح البريطانيين، فيقول أحد الأزواج المسنين البريطانيين للصحيفة: «لم نعد نحب هذه الجزيرة أبداً.. إن بقيت مخيمات اللاجئين هنا لن نعود السنة القادمة بالتأكيد».

بدا وكأن حالة من «القرف» قد بدأت تصيب السياح البريطانيين فور وصولهم إلى «كوس» وفرد التقرير مجموعة من الصور لأحد السياح، وهو يحمل أكياساً كبيرة مليئة بالفاكهة، يمر من جانب أحد المهاجرين بعد أن جعل من صندوق كرتوني منزلاً له، وصورة امرأة تتشمس من على شرفة الفندق وهي تنظر إلى امرأة أخرى تغسل ثياب أولادها بمياه البحر، وصورة لإحدى السيدات وهي تستلقي على الشاطئ، يصطف وراءها عشرات الأشخاص أمام أحد مراكز منح تأشيرات الدخول، بدا المشهد صادماً ومحزناً، وأثار موجة غير مسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي.

القذارة لها مصدر!

بدأت التعليقات تتوالى على موقع «تويتر»، يقول أحدهم ساخراً من معاناة سياح بريطانيا: «فعلاً أشعر بالشفقة عليكم..»، كما كتبت إحدى السيدات بنزق: «ليس أولئك المساكين من يجعل «كوس» قذرة، إنكم أنتم من جعلتموها هكذا»، وترك أحد الأشخاص التعليق التالي: «لا أفهم لم يلام المهاجرون على ذلك.. إنهم ليسوا هنا للتمتع بالشاطئ أو اكتساب سمرة البحر.. ما هذا المنطق؟»، بدا وكأن «القرف» قد أصاب الكثير ممن تابعوا التقرير أيضاً، لكن لأسباب أخرى بالطبع، كالعادة بقيت تلك النقاشات الإلكترونية حبيسة شاشاتها، ولن تضع السقف فوق رأس أي لاجئ بالتأكيد، لكنها مؤشر جديد يعكس حالة الضيق والعجز في مواجهة تلك الأزمة التي يبدو أنها تتفاقم يوماً بعد يوم وتترك آثاراً عميقة في بنية المجتمعات الأوروبية، تلك الدول التي بدأت شعوبها تشعر بحرارة أزمات المنطقة على صعيد شخصي ومباشر، وتثير التساؤلات الدائمة عن سر نيّة حكوماتها إطالة أمد الصراع فيها.

ماذا ستقول؟

هل تظنون بأن صديقنا الشاب قد ظهر في إحدى صور التقرير، ربما رأينا وجهه في طوابير الانتظار، أو استطاعت إحدى الكاميرات التقاطه وهو يحشر جسده مع مجموعة من المهاجرين النائمين على الشاطئ، أظن بأنه قد يخفي وجهه خجلاً إن لمح إحداها، لكني أود رؤيته بشدة وهو ينظر إلى إحدى العائلات التي يلعب صغارها على الشاطئ، ويستلقي كبارها أمام الأمواج بكسل، أود أن أخبره بأن تلك السيدة العجوز هناك، تلك التي تنزه كلبها على الممر الخشبي الجميل، هي من وصفته بـ«المقرف» أمام صديقاتها، أود أن أعرف ماذا سيقول، أعلم سيهز برأسه باسماً دون أن يقول شيئاً وهو ما زال يثبت نظره على الشاطئ، بينما تطوف أفكاره عائدة عبر البحر نحو شاطئ آخر أكثر ألفة وترحيباً، سيبقى شارداً إلى أن ينتزعه بقسوة صوت أحد عمال الإغاثة من أحلامه، وهو ينادي باسمه بين العشرات من «المقرفين» من أمثاله.