في الواقع..
يبدو الحديث عن الموسم الرمضاني على شاشاتنا مبكراً بعض الشيء، فالكثير من تلك الأعمال ما زالت على الورق، وهناك العديد من الصعوبات التي تفرضها ظروف الأزمة الحالية على طاقم أي عمل منهم، لكن أحداً لا يستطيع تجاهل المسار الجديد الذي بدأت تنحو إليه تلك الأعمال، وبدأ الكثير منها يستفيد من انفتاح الطاقم الفني السوري على منابر الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، محلياً وعربياً في إطار خطط تسويقية تعتمد على «تسريبات» قد ترفع مستوى الاهتمام، وتجعل العمل محور حديث المتابعين، لكنها في الوقت نفسه، تفضح ارتهان الكثير من تلك الأعمال لمعايير أساءت إلى صورتها الفنية، وتحول أغلبها إلى نماذج مشوهة عن «الواقع» الذي يود الكثيرون الحديث عنه.
شكلت الأحداث الأخيرة مادة دسمة للكثير من الأعمال الفنية في السنوات الأخيرة، وتابع المشاهدون تزاحماً غير مسبوق من المسلسلات السورية التي حاولت الاستفادة من تلك المتغيرات الطارئة، في تشكيل قصص متجددة تحاول الاقتراب على الدوام مما يراه ويسمعه ويشعر به العديد من متابعيها، لكن المتابع الفطن بدأ يلاحظ حالة مستمرة من التكرار الفج، امتزجت بعوامل جديدة أخرجته من إطاره الفني ورؤيته الفكرية، لتلقي به إلى «سوق» الإنتاج، وتحت رحمة آراء حفنة صغيرة من رجال الأعمال لا رجال الدراما، بدا وكأنها وقعت في الفخ الذي سبقته إليها الدراما المصرية، لتنتهي في آخر المطاف ضمن واحدة من ثلاث اتجاهات رئيسية تميزت بها شاشاتنا الرمضانية في الآونة الأخيرة.
دون جدوى
أولها نمط «لا واقعي» على الإطلاق، اختار عواصم العالم لتكون مسرحاً لأحداثه، تتحدث عن صراعات بين الأثرياء تتحول إلى خلافات شخصية لا بد أن تتخللها قصص عن الخيانة الزوجية و«الحب المحرم» و الهوى المجنون مع «رشة» معقولة من الإباحية، التي تسترعي اهتمام البعض، تغلفها أثواب جميلة وسيارات فارهة وقصور فخمة، دون أن تحمل أحداث الحلقات أو الحوار بين الشخصيات أية قيمة، هو سجال «إعلاني» ممطوط تظهر فيه المجوهرات الباهظة الساحرة والمدن السياحية الأخاذة على امتداد الحلقات، مع استخدام مفرط لأحدث تقنيات الصوت والصورة ليظهر المشهد العام كـ«ترقيع» حريري لثوب بال، وليصبح محط سخرية الجميع كما حدث العام الماضي حين حاول يعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي تفنيد مشاهد أحد أشهر المسلسلات السورية التي تندرج تحت هذا النمط بحثاً عن ممثل –أو ممثلة- لا يستخدم في مشاهده هاتفاً محمولاً جديداً مكلفاً من نوع «أيفون»، لكن دون جدوى!
موقف أحادي.. حيادية مصطنعة
يشهد النوع الثاني من الأعمال نمواً سنوياً ملحوظاً، وتبدو رغبته في الحديث عن «الواقع» جلية للغاية، لكنه يقع مباشرة في مطب ازدواجية الرؤى وثنائيات الأزمة الوهمية ليتبنى موقفاً أحادياً مما يجري على الأرض، فيلقي بالتهم على أحد الأطراف دون الأخرى، ويتحول إلى أداة للتشهير بالطرف الآخر، كما قد يسقط البعض من تلك الأعمال في الهوة التي تفصل بين الأفرقاء، فيلتزم حيادية مصطنعة تُظهر توازناً في الآراء لكنها تبتغي فقط أن تستفيد من الضجة الكبيرة، التي ستحدثها فور ظهورها على الشاشات، وأمام جميع المشاهدين المنقسمين حول الموضوع ذاته ، فتبدأ حملات الانتقاد أو التشجيع لترفع من مستوى الحديث، دون أن يلتفت الكثيرون لفكرة العمل الأساسية وجوهر أحداثه، والتي تظهر عادة على شكل قصة بوليسية معتادة، استترت بأحداث الحرب السورية أو قصة حب تقليدية، بين من تفرقهما السياسة ويجمعهما القلب، لا ضير من أن نرى بعض الأعمال التي تنظر إلى واقعنا من وجهة نظر خاصة، أو أن تحاول النأي بنا قليلاً عن جلف أحداثنا اليومية، لكن إصرار القائمين على تلك الأعمال على تسميتها «بالواقعية» و«القريبة من الوجع السوري» زاد من «تغربها».
«موضة الملاحم»
أما النوع الثالث فنعرفه جميعاً، «المسلسلات الشامية» التي يبدو كأنها «موضة» عصية على الزوال، وهي تحقق «أرباحاً» لا بأس بها على الفضائيات العربية، على الرغم من ارتفاع حدة الاتهامات التي وجهت إليها هذه السنة بالذات، لاستمرارها في تزوير الكثير من وقائع التاريخ الدمشقي، على وجه الخصوص والسوري على وجه العموم، لا يهتم القائمون على هذه الأعمال كثيراً بما يقال ويعدون على الدوام بـ«أجزاء» جديدة من تلك «الملاحم»، فخ التكرار يظهر من جديد لكن مع حالة من التزوير لم تعد مقبولة على الإطلاق، وهي تشوش كثيراً على استثناءات محدودة للغاية من هذا النمط من الأعمال، لن تجد أبدا طريقها إلى النور في ظل هذه الهيمنة الاستهلاكية الرخيصة، لرواية مرحلة حساسة للغاية من تاريخنا، سطعت فيها حالة اجتماعية وفكرية مميزة، تبقى على الدوام وبشكل مريب حبيسة كتب التاريخ، بدلاً من أن ترمي «عنتريات الزعران» بعيداً عن وجوهنا.
واقعنا «بحق»
في الواقع، لا يبدو الأمر بهذا السوء، فالموسم القادم يعد بالكثير من الأعمال المميزة التي تتحدث عن «واقعنا» بحق، ولا يمكن لنا الحكم على موسم بكامله دون أن يبدأ، كما أن المتابعين يشيرون إلى تحسن ملحوظ في رؤية تلك الأعمال وابتعادها عن ضجيج الانقسامات المعتادة، التي أصابت الجمهور قبل العمل ذاته، يبدو ذلك طبيعياً بعد أن «نضجت» أزمتنا المعقدة، وانقشع بعض الغمام من حولها، لكن ذلك لا ينفي حاجة صناعة الدراما السورية إلى صحوة تضعها من جديد على مسارها المميز الذي اعتدناه منذ بعض الوقت، وبالأخص عندما يبدأ الحديث عن «الواقع»، حيث ظهرت الكثير من الأمثلة البراقة العام الماضي، والتي لا يمكن أن يتجاهلها، فمن منا يستطيع بساطة مسلسل «ضبو الشناتي-الحقائب» على سبيل المثال لا الحصر، إنها الحالة «الواقعية» المثالية التي لابد أن يتم أن تلقى مزيداً من الاهتمام، يومها راقب السوريون أنفسهم مجتمعين في بيت دمشقي متواضع، حوى آلامهم وأحزانهم وأفراحهم وجميع اختلافاتهم، إلى أن قضى البحر على أحلامهم بعد أن بدأت المياه في بيتهم بالتدفق بعد انقطاع لتغمر كل شيء..