السلطة الرابعة.. Out

السلطة الرابعة.. Out

«ما الذي تفعله هنا؟، أريدك أن تخرج أنت وقناة «فوكس» من بالتيمور، أنت لست هنا للتعبير عن حزننا على وفاة ولدنا «فريدي غراي»، أنت لست هنا للتعبير عن الفقر الذي يسكن شوارعنا، أنت لست هنا للحديث عن المشردين والمحتاجين في مجتمعنا، أنت هنا للحديث عن «الشغب والفوضى» التي يحدثها المتظاهرون اليوم، أنت هنا للحديث عن قصتك وحدك..فقط..»!

هدر صوت المتظاهر الأسود بهذه العبارة، وهو يحدق بكل حزم بـ«جيرالدو ريفيرا»، أحد أشهر مراسلي القناة «فوكس نيوز» الأمريكية الإخبارية، وسرعان ما أحاط المكان جمع كبير من أهالي «بالتيمور» متابعين بصمت وترقب، رفع معظمهم آلات التصوير وأجهزتهم المحمولة لتبدأ العدسات بمراقبة مشهد لم تعتد عليه شاشات التلفزة الأمريكية إلا منذ أيام..!
تغطية خاصة
لم يملك المراسل سوى ابتسامة صفراء حاول أن يواجه بها حنق المحتجين وصخبهم، تعالت أصوات التشجيع بعد أن حاول المراسل أن يشق طريقه هارباً من المتجمعين، ولم يعد قادراً على إنهاء مقابلته مع أحد رجال السلطة المحلية في بالتيمور، «مالذي تفعله يا رجل؟ إننا نجري حديثاً مهماً هنا، لا تهرب..»، لاحقه المتظاهر بسيل من الأفكار، بدا وكأن الجميع قد اتفق على طرد المراسل وفريقه من المكان وبأقصى سرعة، فالمناسبة لا تحتمل التغطية المشوهة التي اعتاد أهالي المدينة على سماعها من قناة «فوكس نيوز» طوال الشهور الأخيرة، الجميع غاضب بعد أن علم الجميع كيف قتلت الشرطة الشاب «فريدي غراي» منذ أيام، وبعد أن كشف الفحص الجنائي اختناق الشاب في مؤخرة عربة الشرطة بحزام أمان ربط حوله من قبل ستة رجال شرطة في آن واحد، ليضاف إلى سلسلة لا تنتهي من الحوادث المشابهة التي ما زالت تشعل أركان البلاد منذ أواخر العام الماضي، لم يجد المحتجون بديلاً من مواجهة حظر التجول الذي فرضته الشرطة، وتجمعوا بعد انتهاء مراسم الدفن، يعاود المتظاهر الصراخ في وجه المراسل: «نحن لسنا قطاع طرق، لسنا مخربين، هل تسمعني؟ هل تصور؟..».
أصر «جيرالدو» على نقل الصورة التي يريد عن تلك الحادثة، فظهر في تقرير القناة الذي نشر في اليوم التالي وهو يحاول «التفاهم» مع «الجموع الغاضبة»، «أنتم مزعجون للغاية.. دعونا نقوم بعملنا»، يعاود القول لأكثر من مرة، ثم التفت إلى ضيفه المرتعش وقال له بكل وضوح : «دعنا نبتعد عن أولئك المخربين..».
عدسة مشوهة
لم يتحدث التقرير أبداً عن حرص المتظاهر «المزعج» لإبقاء النقاش حضارياً قدر الإمكان، فبدا على النقيض تماماً مما نشرته أجهزة الهواتف المحمولة من مقاطع مسجلة للحادثة ذاتها، والتي فضحت زيفه منذ الثواني الأولى، وهو الأمر الذي توقعه المتظاهرون أصلاً، في بالتيمور وفي كل مكان عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تناقلت صور الحادثة بكل حماس، وبدأت بالحديث عن موجة متزايدة من الرفض لذلك النوع الخبيث من التغطية الإعلامية الذي يتجاهل التجمعات السلمية ويهجر المسيرات الحزينة، ويكتفي بنقل حالات السطو والتخريب عبر عدسات المروحيات التلفزيونية، مرفقة بالتعليقات المبطنة المحرّفة، كما جرى خلال الأيام القليلة الماضية على شاشات التلفاز عبر الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، وكأن أحداً لا يريد الحديث عن السبب الحقيقي الذي دفع كل أولئك الجياع لمهاجمة تلك المتاجر من الأساس.
هذه ليست المرة الأولى التي ينبري فيها متظاهر مجهول في وجه عدسة مشوهة، فقد قام متظاهر آخر بمواجهة عدسة قناة «أم اس ان بي» بالطريقة نفسها منذ أيام قليلة فقط، وقام بتوجيه نقد لاذع وعلى الهواء لمراسلها «توماس روبرتس»، «لا نراكم هنا إلا عندما تبدأ أعمال الشغب، هذه ليست صدفة»، صرخ المتظاهر في وجه مراسل القناة ليتبعه تصفيق حاد من الجميع، كما قامت امرأة من «بالتيمور» بتقريع «كريس كومو» مراسل قناة «سي أن أن» بشدة بعد أن «ضاقت ذرعاً بالكذب والهراء الذي تسوقه القناة عن الأحداث الأخيرة في البلاد»، وكذلك فعل الناشط «دري ماكيسون» بمراسل القناة ذاتها «وولف بليتزر»، ليأتي الرد مناسباً وفي محله بعد أن صنفها إحصاء أخير نشرته بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بأنها «الأكثر نفاقاً» في متابعة «أحداث بالتيمور»، ولتبدأ معها حركة متكاملة وجدت لها جمهوراً واسعاً على الإنترنت أخذت تهتم بانتقاد الصور السلبية التي يسوقها الإعلام الأمريكي عن قضية العنف العنصري الممارس من قبل أجهزة الشرطة وحفظ النظام، والذي يتم اختصاره على الدوام بأعمال عنف وشغب وتخريب حاقدة.
«المرجع» الأكثر مصداقية..؟
لا يبدو أن الأحداث ستصل إلى نهاية هادئة على الإطلاق، فالاحتجاجات بدأت تتوسع وتخرج عن كونها مجرد ردة فعل غاضبة، بدأ وعي جمعي بالتكامل والنضوج تحفزه لا مبالاة البعض وعنصرية البعض الآخر، وأصبحت كاميرات الهواتف المحمولة المرجع الأكثر مصداقية بعد أن وصل ارتهان الإعلام الأمريكي- للخطاب الرسمي المنحرف- حداً لا يطاق، يجمع حوله المظلومين والمهمشين ويدفعهم للبحث عن «تغطيتهم» الخاصة بعيداً عن عدسات «جيرالدو» وأمثاله، ذلك النوع من العدسات الذي وجد طريقه إلى منطقتنا في الآونة الأخيرة، وما زال يوهم أتباعه بـ«الحيادية» و«الموضوعية»، بعد أن يرسم للمشاهدين صورة مغمسة بالدم حيناً وبالأوراق المالية الخضراء في باقي الأحيان..