المطارق الصامتة..
علا صوت المطارق وهي تهشم الأحجار، رفع يده بقوة وضرب بها الوجه الأصم فعاد الصدى يردد صوت تلك الضربة مرات ومرات، ارتفعت صيحات التهليل والتكبير بعد أن أمسى التمثال قطعاً مفتتة على الأرض، ولم تمض أكثر من دقائق حتى أصبحت تلك القطع المشهد الأول على جميع شاشات العالم، توجه الحقد والانتقام هذه المرة نحو الماضي لا الحاضر، وتساءل البعض عن المغزى من وراء هذه «الحملة» التي لم تهداً، هناك «جبهات قتال» أحوج إلى تلك الجهود، فما بالهم يحطمون الحجارة..؟!
كان لخصوصية الأحداث السورية اليومية تأثيرها على هذه القضية، وكان لطوابير النهار الطويل بصمة خاصة على النفوس المتعبة، دماء وأعمدة دخان وأصوات لا تهدأ جعلت من تحطيم «بعض الأحجار» أمراً لا يحتمل كل تلك «الضجة»، تزاحمت الجروح وتكدست الهموم وتحولت أرقام الضحايا إلى عنوان دائم على الشاشات، وأصبح الخطاب الدموي الحاقد يرن في المجالس ويسكن داخل النفوس دونما مقاومة، بدا وكأن أمراً ما قد كُسر قبل أن تهدم تلك المطارق وجوه عظماء الماضي، فيستخف البعض بما يجري وكأنه «جريمة غير جدية»، ويبدأ بتعداد سلسلة طويلة من الأسماء التي خطفها الموت على عجل، قد تنظر إلى عيونه المتعبة وتصمت، لأنك قد رأيت للتو ما «حطمته» السنون في داخله.
جمعت تلك المدن العريقة شعباً موحداً عظيماً في أحد الأيام، حملت أسواقها ومدارسها وبيوتها راية المدنية الأولى، رسائل التجديد والاستمرارية، سعاة التقدم الفكري والعلمي بشتى فروعه، بدا وكأن تراكماً حضارياً ساحراً قد وجد في شرقنا العتيد، وعاءً لا ينفك اتساعاً، تعاقب الغزاة يحلمون بأرض احتضنت عجائب الزمان ولاتزال تمنح المزيد، كانت تلك حالنا نحن قبل عقود طويلة من الانقسام والتفرقة والعداء، أما اليوم يبدو ذلك الإرث بعيداً للغاية عن واقعنا، وها هو يتلقى نيابة عنا الضربات الأخيرة التي حاول أجداد غزاة اليوم توجيهها على الدوام، يريدون اليوم تحطيم ما تبقى من أثر لحضارة جامعة متكاملة تمنح أحفادها الفخر وشعوراً حقيقياً بالانتماء يقفز فوق كل ما يفتت أواصرهم.
لا يتوقف الأمر على جاهل مغتر يود «تحطيم الأصنام» بعد أن استولت خيالات منحرفة على رأسه، لم تكن القضية يوماً بهذه السطحية، كما لا يجوز ربط هذا الفعل المنحرف بما حدث قبل قرون أيام الغزوات والفتوحات، في محاولة لتوجيه ضربة إلى الإسلام بحد ذاته كمرجع لمثل تلك التصرفات، تلك الادعاءات ترد عليها ملايين التماثيل والمخطوطات التي حفظت بعناية وصمدت بوجه غزاة وفاتحين لعشرات الآلاف من السنين وتحملت حملات دورية من السرقة والنهب المنظم للمستعمرين الجدد، الحالة هنا مختلفة، وتستدعي الخروج من حالة اللامبالاة التي يواجه فيها الناس تلك القضايا بعد أن يحلو لهم وضعها في ميزان «الحجر مقابل البشر»، وكأن هناك خسارة أرحم من أخرى، هناك من يود دفن تراكم حضاري لا يقدر بثمن بعيداً عن ورثته الحقيقيين بعد أن يفرض رؤيته المشوهة من التاريخ، عندها يصبح من المخيف تخيل مشهد يقف فيه أحفاد الحضارة الأولى وحملة تراث الأجداد عاجزين أمام سؤال بارد وحيد: «هل تقول بأنك الأجدر بالبقاء على هذه الأرض..؟ حسناً.. أرني ما يثبت ذلك!».