«لغة» الحقد ..
دخلت المعلمة غرفة الصف، وضعت أوراقها الكثيرة على الطاولة واقتربت إلى الوسط تريد إخبار الجميع بما ستقوم به صفوف المدرسة جميعها اليوم: «أيها التلاميذ..» رفعت صوتها قليلاً فأنصت الجميع، «كما تعرفون تحتفل المدرسة بأسبوع الثقافات الأجنبية منذ يومين، جميع مدارس نيويورك تحتفل بذلك، ولكم مني اليوم واجباً مدرسياً ممتعاً للغاية».
تابعت مبتسمة: «تعرفون جميعاً كلمات نشيدنا الوطني الأمريكي، أود أن يقوم كلّ منكم بإعادة كتابة تلك الكلمات بلغة أجنبية من اختياره، أليس هذا ممتعاً؟»، تحمّس التلامذة للفكرة على الفور، وهم بعضهم بكتابة بعض الكلمات التي يعرفها، لكن أحداً لم يعلم بأن ذلك الاقتراح سيخلق عاصفة غير مسبوقة تجاوزت بكثير حدود تلك المدرسة «النيويوركية» الصغيرة.
بدأت القصة عندما قرر أحد التلامذة في ثانوية بلدة «باين بوش» كتابة النشيد الوطني الأمريكية باللغة العربية، كجزء من احتفالية المدرسة السنوية بما يدعى «أسبوع الثقافات الأجنبية»، حيث تخصص بعض مدارس مدينة «نيويورك» الأمريكية، بعض الأيام من نهاية شهر آذار من كل عام لـ«الاحتفاء بالتنوع الغني من الأعراق والثقافات والأديان المتعددة، التي تتكون منها الولايات المتحدة الأمريكية» على حد تعبير المسؤولين عن تلك الاحتفالية.
عنصرية واضحة!!
لكن إعادة كتابة النشيد الوطني باللغة العربية حوّل ذلك الحدث الروتيني إلى سجال دسم، تناقلته وسائل الأعلام المحلية، بعد أن شهدت تلك البلدة الصغيرة احتجاجات دعا فيها الأهالي إلى التوقف عن هذه «التصرفات غير الأمريكية» وإبعاد «لغة الإرهابيين» عن النشيد الوطني الأمريكي، بدا وكأن لغة «التسامح» قد تراجعت للحظة لتحل محلها حقيقة يحاول الجميع إخفاءها هناك منذ بعض الوقت، «العنصرية الأمريكية» في أوضح صورها.
لا تنال اللغة العربية الكثير من التقدير ضمن الأوساط الأمريكية المحلية، فالناطقون بها في منطقتنا لا يستطيعون تجاهل ربطها بكل ما هو قبيح ودموي على الشاشات، فلقد اعتادت صناعة السينما الأمريكية على ربط صورة «الإرهابي» بمنطوق مشوه، تدعي القصة بأنه «لغة عربية»، كلام يعصى على فهم العرب أنفسهم، كما تمتلئ شوارع «مدن الحرب الأمريكية» بأحرف عربية منفصلة لا تعني شيئاً في الأساس، جرى رسمها بالدم على ركام الجدران المحطمة.
وامتدت موجة التعصب تلك لتشمل عدداً كبيراً من اللغات الأخرى كالصينية والروسية، وعدداً كبيراً من لغات آسيا البعيدة عن فهم وإدراك الشباب الأمريكي على اختلاف مستوياته الثقافية، هناك شيء ما يخيف الجموع الأمريكية من «الشرق» بشكل عام! كما اعتاد الكثير من المنظّرين هناك على تصنيف بعض اللغات بـ«المارقة» كنوع من العداء الثقافي للشعوب التي تتكلم بها، كما هي الحال مع اللغة الروسية على وجه الخصوص، لكن اللغة العربية قد تربعت اليوم على قمة تلك اللغات المكروهة، بعد أن أخذت لهيب الحروب المشرقية تحرق مدن الغرب بين الحين والآخر، لا يهتم أحد بأصل ذلك العداء ولا يقيم الكثيرون وزناً للدور الأمريكي في إذكاء نيرانه كل حين.
دراما مستمرة!
نزلت الكاميرا إلى الشارع لترصد حالة الغضب تلك، يحتضن رجل زوجته بعد أن رفعت صوتها في وجه المذيعة قائلة: «لقد ضحى ولدي الأصغر بحياته فداءً لأميركا، قتلته عبوة ناسفة في أفغانستان، لا أستطيع تخيل سماع نشيدنا الوطني بلغة من قتل ابني.. لا أستطيع تحمل ذلك»، يمر هذا التصريح بكل بساطة أمام عيون المشاهدين، ولو افترضنا جدلاً بأننا نستطيع الحكم على أمة بأكملها بالعداء بناءً على لغة سكانها، لا نستطيع بأي شكل من الأشكال قبول هذا الاتهام، لأن سكان أفغانستان لا يتكلمون «العربية».
لا فرق عند تلك الجموع بين هذا وذاك، جهل ممزوج بتعصب موروث يفضح غضباً لا أساس له، وتؤكد التقارير السنوية الصادرة عن المؤسسات التعليمية الأمريكية التي تؤكد تفشي حالة لا مثيل لها في العالم من الجهل الجماعي بكافة الأوجه العلمية والتاريخية للمحيط الأمريكي، أكثر من نصف الأمريكيين لا يستطيعون تحديد موقع العراق على الخريطة، أو حتى أفغانستان، تستمر القصة لتنتهي بشكل غير متوقع فقد أصدرت إدارة المدرسة اعتذاراً رسمياً من الأهالي، نشرته وسائل الإعلام عبر الولايات المتحدة الأمريكية كلها، وأثبتت للتلامذة قبل أهاليهم بأن إلقاء النشيد الوطني باللغة العربية خاطئ وغير مقبول!
«لغة» لم تتغير
هذه هي الحال في «باين بوش»، البلدة الأمريكية التي تقع في الجانب الريفي «الراقي» من «نيويورك»، لا تنوع عرقي هناك أساساً، مع سيطرة تاريخية لـ«الرجل الأبيض»، لكن ما جرى لم يقتصر يوماً على مكان واحد في أمريكا، بعد أن حملت الشهور الأخيرة نماذج فاقعة للمجتمع الأمريكي المليء بالتناقضات، أما هنا، وعلى أرض تلك اللغة، لم يهتم أحد لتلك الحادثة العابرة، هناك عداء أكثر وضوحاً يراه الجميع يومياً في ساطور ملطخ بالدماء، أو مطرقة تهشم وجه إرث آلاف من السنين، الحرب لم توفر احداً و«لغة» الحقد لم تتغير.