أوراق خريفية: «جدتي العزيزة!»
أكتب إليك هذه الرسالة وأنا في غاية الحبور والسعادة...
أكتب إليك هذه الرسالة وأنا في غاية الحبور والسعادة...
■■ إن الشعور بجدية التهديد الأمريكي باحتلال العراق يدفع الجميع إلى البحث عن الوسائل الكفيلة بمجابهة الخطر المحدق بالجميع،وهو الشغل الشاغل للناس.. ومن الملاحظ ازدياد الإحساس والشعور بالمسؤولية تجاه ما يهدد الوطن.
فجأة دار الزمن سريعاً، ها نحن الآن على أبواب الترنح، أربعون عاماً من وهن، وأرجل تورمت من فرط حموضة البول، وكروش صغيرة ناتئة، ولهاث متصاعد من الإعياء، ونساء صرن حلماً بعيد المنال.
• لعلك توافقني إن قلت لك: إن الذاكرة ما زالت تختزن صفحات وصفحات من عالم الطفولة ومقاعد الدراسة على الرغم من مرور زهاء ستين عاما على ذلك، أيام كنا تلاميذ في المدرسة الابتدائية، ففي مثل هذا الفصل، أعني فصل الربيع، يمتلئ قسم "الإنشاء" أي التعبير في دفتر الواجبات المنزلية بموضوعات عن أجمل الفصول يكلفنا بها المعلمون، ويدور حولها التنافس الجاد ولا يستبعد أن يستعان بالأصدقاء والأهل للمشاركة في صياغتها شريطة أن تبقى في حدود "مقدرة" من هم في مثل أعمارنا وصفوفنا، وأهم عناصرها وصف جمال الربيع وأجوائه الخلابة الساحرة.
- بل قل صباح الخير، اجلس، زيارتك في هذا الليل المتأخر أقلقتني، عسى الأمر خيراً؟
توفي والد أحد الأصدقاء في منطقة نائية تبعد عن مدينتي أكثر من خمسمائة كيلومتراً. وبسبب علاقتي المتينة مع هذا الصديق فقد قررت زيارته والقيام بواجب التعزية.
● حديثي معك ـ اليوم ـ يا صاحبي عن أمر غريب عجيب، عن أمر ليس له إلا أحد تفسيرين لاثالث لهما، إما أن الطبل والزمر في دوما والعرس في روما، وإما أن «انتو . . . فين والـ . . . فين»!!
ما كان تركس البيروقراطية يغير زيته من عيار 40 شاقل قبل الإغارة على بيوت ضاحية حمص المسماة «حارة الطب»، كانت رائحة الباذنجان المقلي تفوح من منزل أم علي.
عندما يناديني الشباب والصبايا بلقب (عمّو).. ويقفون احتراماً لي في الباص لأجلس مكانهم..
عندما تعبر الصبايا الجميلات من أمامي ولا أعيرهم أكثر من التفاتة حنونة..
عندما أنهمك وبسرّية تامّة بالبحث عن العقاقير المقويّة للباه..
عندما أحنّ لزيارة مرابع الطفولة وأجهش في البكاء..
عندما تنمو الشعرات بكثافة على حواف الأذنين ويقترح الحلاّق بمنتهى اللطف إزالتها..
عندما أسير الهوينى محدودب الظهر شابكاً يديّ إلى الخلف.. وأجلس في الحديقة العامة بكسل وأكبو على المقعد مهدلاً رأسي، وأنتفض بين الحين والآخر لأعود وأغط في إغفاءات قصيرة..
عندما لا أسمع همسات العشاق ولا هسيس قبلاتهم وهم على مقربة منّي في المقعد المجاور..
عندما لا تجفل عصافير الدوري منّي، وتنقر بسعادة فتات الخبز المتناثر من بين يديّ المرتعشتين أبداً..
عندما أنظر إلى معارفي من تحت حاجبيّ الكثين الأشيبين.. وأتلكأ بمعرفة أسمائهم..
عندما أفكر بالإقلاع عن التدخين والكحول.. لتخفيض سكر الدم والكوليسترول..
عندما تصبح هوايتي قراءة أوراق النعي الملصقة في الشوارع، والتمعّن حصراً بأعمار المرحومين..
عندما أقوم بزيارة ضريح زوجتي أسبوعياً – بعد أن كانت شهرياً - متمنياً من الله أن يقرّب لقائي بروحها..
عندما أطلب من أحفادي مساعدتي في قصّ أظافري، لقاء حكاية.. ويتسلّون بتعداد الشامات على وجهي ويديّ، ويسألون بدهشة عن سرّ العروق الزرق في ظاهر الكفين.. ويراقبوني بقرف وأنا أنظّف طقم أسناني..
عندما أُرغمُ الآخرين على مجاملتي وسماعي.. فأستمتع بسرد الذكريات عليهم، مشيداً بأمجادي للمرة المليون..
عندما أُستثنى من الحوارات السياسية اللاهبة، ويضيق ذرعاً بي الحاضرون لدى إقحام نفسي وتقديمي مداخلة مطوّلة..
عندما يكفّ المخبرون عن تسطير التقارير بحقي بحجة شيخوختي وخرفي.. وتتغاضى كافة فروع المخابرات عن مساءلتي..
عندما يطالبني أولادي بتوزيع الحصص الإرثية عليهم، ويقومون بتحضير كلمات الرثاء لإلقائها في مأتمي..
يعني ذلك... أنني بتّ قاب قوسين أو أدنى من مصافحة الرفيق عزرائيل..
- ألا ماأطيب لقاء الأحبة والأصدقاء والأصحاب . . ماأبهج أن تلتقي المفكرين والأدباء والفنانين... ماأجمل أن تلتقي . .