مطبات: صدى مشهد طويل
فجأة دار الزمن سريعاً، ها نحن الآن على أبواب الترنح، أربعون عاماً من وهن، وأرجل تورمت من فرط حموضة البول، وكروش صغيرة ناتئة، ولهاث متصاعد من الإعياء، ونساء صرن حلماً بعيد المنال.
هناك، قبل ثلاثين سنة، كنا نلصق ظهورنا الصغيرة في الشتاء على جدار الفرن، ونضم الأرغفة الساخنة ونشمها، وفي الطريق نقضم الرائحة الساخنة بنهم عتيق يشبه لقاء أول امرأة أحببناها بجنون، كان الجسد الصغير حينها تواقاً للنضوج والتضخم، والروح لم تلوثها الأفكار المسمومة بالاتجاهات.
منذ ثلاثين سنة ولم تزل مدرسة (عدنان المدني) الابتدائية تفاجئني في الليل ببوابتها الكبيرة وأدراجها التي تلم الأجساد الهارعة إلى الصفوف، الشعر الأبيض يغطي رأس المدير المربي (خالد حبشية) واقفاً في منتصف الساحة مثل علم وطني، الشعر الأصفر لمدرسة الرياضيات (ماري روز) لا يوحي أبداً بقسوتها و(فلقاتها)، وأنا هناك قبل ثلاثين عاماً أنتظر حصة اللغة العربية وصوت المدرس النحيف (أحمد تغلب)، هناك كنا نكبر مع كل الأناشيد التي لم يعد يعرفها أبنائي، ولم تعد في برنامج التعليم الجديد.
تبدو كأنها ذكرياتي وحدها، لكنني أثق في اللحظة نفسها أن ثمة من يتذكر معي، ويحس الآن بالدفء في ظهره من حرارة جدار الفرن، ويقف خاشعاً من صلابة وحنان مدير المدرسة، ويردد معي الأناشيد التي حفظناها (ورقات تطفر في الدرب---- والغيمة شقراء الهدب)، ( كالجبال الراسيات شامخاً يبني الحياة)، (ألا حبذا صحبة المكتب--- وأحبب بأيامه أحبب)، وثمة من ينفض الآن الغبار عن حذائه في الطريق الترابية على المدرسة.
كان بائع المازوت يجر حصانه المتعب إلى مدخل بيتنا الذي يشبه قلعة قديمة بسردابه الطويل وفسحته التي كما تقول أمي عنها يرى الواحد منها ربه، يملأ بوعائه ذي الفم الطويل تنكة المازوت بثلاث ليرات ونصف، وفي المساء الشتائي بخمس ليرات قديمة خضراء يشتري والدي عشاءنا اللاحم (فشش)، أما رأس الخروف، الخبز الكندي، اللبن المصفى مع النعنع، الزيت البلدي، وعاء الزيتون الذي يشبه الكرة الفخارية، مونة الشتاء العامرة، وقتها لم تكن وجوه الأهالي توحي بالفزع الذي ينتابنا اليوم.
في مشوارنا نحو الأربعين سقطت حواسنا، طعم الخبز الذي ضاع على أبواب المخابز التي سحبت منها مواد الدعم، وتداعت مؤسسات الخبز التي تواصل خسائرها بالملايين، الحليب واللبن الذي صار بلدياً وعادياً، مبستراً وبأكياس بلاستيكية، اللحوم الحمراء والبيضاء صيروها حلماً، العواس والبيلا والبلدي أصناف لا يحدها سعر، الكيلوغرام الواحد براتب موظف ثمانيني، وسبعة كيلو غرامات براتب مهندس معين حديثاً..الخ.
في الطريق إلى الأربعين صارت أنشودة القطاع العام الذي تربت عليه ذاكرتنا ومعدتنا مجرد صدى لأصوات آلات وهتاف بعيد، وشركات تودع بعضها دون دموع.
آخر الأخبار أن (المؤسسة العامة الغذائية لم تقم بإدراج أية خطة لشركة زيوت دمشق، التي كانت تُصنّع الزيوت والصابون، ولا لشركة كاميليا التي كانت تُصنّع البسكويت، بعد أنْ كانت قد صدرت الموافقة على تسليم موقع الشركتين (الزيوت وكاميليا) إلى وزارة التربية. كذلك لم تُدرج أيضاً أية خطة إنتاجية لوحدة كونسروة الميادين المتوقفة عن العمل أصلاً، فيما تجري حالياً اتصالات جديّة لنقل ملكيتها إلى الشركة العامة للمطاحن، أما بالنسبة لشركة الشرق في حلب والتي تضم ثلاثة مصانع، واحد لإنتاج البيرة، والثاني لصناعة الألبان، والثالث للبسكويت، فيبدو أنَّ المؤسسة سوف تستمر بالعمل في معمل البيرة والاقتصار على خط البسكويت المتنوع ، غير أنها قررت وقف النشاط في معمل الألبان لعدم وجود آفاق لتطوير العملية الإنتاجية).
إنه الفصل الأخير قبل أن تسدل الستارة عن مشهد طويل من حياة أجيال عملت، وأجيال أكلت، وأجيال تغنت، وأخرى تعد النعش والتراتيل.