فصلٌ جديدٌ في مسرحية جيفري وأبو الفول الجولاني...
هنالك شخصيات معينة لا يبدو أن أدوارها مكتوبة بشكل واضح ضمن النص. مع ذلك، فإنّ لها دورها الذي يستمر في التطور ببطء، ولكن في خلفية المسرح، وتظهر على الخشبة ظهوراً عابراً بين الحين والآخر، حتى نتمكن من الحصول على لمحة عن كيفية تطورها...
إحدى هذه الشخصيات في «المسرحية»، هو الجولاني، الذي تحول من زعيم خطير لتنظيم إرهابي تابع للقاعدة، ومطلوب حول العالم، إلى شخصية محببة على قلب الغرب، وخاصة الولايات المتحدة... وربما قريباً سنراه بطلاً سورياً ينبغي للجماهير العريضة أن تصطف خلف قيادته الحكيمة على طريق إنقاذ سورية من فائض الحكمة الذي تتمتع به قياداتها!
في الحلقة السابقة من سلسلة الحلقات التي خصصتها قاسيون لمتابعة «المسرحية»، منذ ما يقرب من شهرين، تحدثنا عن آخر محاولات تبييض النصرة والجولاني عندما ظهر مرتدياً ملابس «غربية» مع مارتن سميث، الصحفي الأمريكي، في إدلب، وبذلك يتخلص مجازياً وحرفياً من «اللبوس الإرهابي».
يوم الجمعة الماضي، 2 نيسان، نشرت واحدة من أضخم وسائل الإعلام الأمريكية (PBS) وضمن القسم المخصصلبرنامج ((FRONTLINE مقالاً عن الجولاني ومقطعاً من المقابلة التي أجراها معه مارتن سميث.
تحدد كاتبة المقالة، بريانكا بوغاني، المقامَ الذي ستعزف عليه مقالتها ابتداءً من الأسطر الأولى: «لقد حارب هو ومنظمته ضد قوات الأسد، وضد حلفاء الأسد الروس والإيرانيين، وضد حلفائه السابقين في داعش والقاعدة». هذه «الحروب» تقدح في ذهن القارئ الأمريكي/ الغربي، فكرة بسيطة: الجولاني دخل حروباً ضد أعداء الولايات المتحدة، وضد قوى الشر في العالم... بل ويصل المقال إلى مكان يقول فيه صراحة إن ما يفعله الجولاني «يعكس المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة والغرب».
المقال من بدايته إلى نهايته، هو الحلقة الأحدث في سلسلة تصريحات لشخصيات ووسائل إعلام أمريكية هدفها تبييض الجولاني. أبرز حلقات السلسلة كانت من إخراج جيمس جيفري الذي كان حتى وقت قريب المبعوث الأمريكي إلى سورية، والذي بدأ في تمهيد الطريق للجولاني منذ وقت مبكر، ثمّ عبّر في إحدى إحاطاته الإعلامية، في كانون الثاني 2020، - وكان لا يزال في منصبه- عن احتمال رفع النصرة من قوائم الإرهاب، وهو ما نوقش على صفحات قاسيون في ذلك الوقت بشكل مستفيض.
بالعودة إلى مقالة بريانكا، فإنّ جيفري تبرّع بأن يساهم في الحلقة الجديدة أيضاً؛ إذ تروي بريانكا أنّه قد أخبر مارتن سميث مؤخراً أنّ «تنظيم الجولاني كان أحد الأصول لإستراتيجية أمريكا في إدلب» وأنهم (أي النصرة) «الخيار الأقل سوءاً من بين الخيارات المختلفة في إدلب». وكي لا تعيق الترجمة وصول المعنى بدقته وفظاعته، ينبغي توضيح أنّ كلمة الأصول التي استخدمناها هنا هي ASSET في النص الإنكليزي، والمستخدمة للتعبير عن الأصول بالمعنى الاقتصادي، أي الموارد الملموسة وغير الملموسة المملوكة من شركة، أو دولة إلخ (وفقاً للتعريفات المدرسية المبسطة)..
«المستنقع»، «الجمود هو الاستقرار»، التقسيم
ما يقوله جيفري عن الإستراتيجية الأمريكية في إدلب التي تخدمها جماعة مثل النصرة، يتوافق تماماً مع الإستراتيجية الأمريكية العامة في سورية، والتي يمكن تلخيصها بمفهومين قدمهما جيفري نفسه: : تحويل سورية «مستنقعاً»، وإبقاء المستنقع راكداً، أو كما قال «الجمود هو الاستقرار». لكن كيفية ترجمة ذلك على أرض الواقع تتطلب عملاً مستمراً للتمكن من الحفاظ على هذا الركود، وهذا «الاستقرار»، الأمر الذي يتطلب، وللمفارقة، حركة مستمرة وتغييرات من النوع الذي نراه مع الجولاني وتطور موقعه ضمن الخطاب الأمريكي.
هنالك ساحة أخرى (عدا عن النصرة)، تظهر ضمنها مؤشرات العمل الحثيث الذي سبق أن ناقشناه بطرق مختلفة، والهادف إلى إطالة حالة تقسيم الأمر الواقع إلى ثلاثة أجزاء على الأقل، دون أن يعني ذلك الوصول إلى تقسيم فعلي معترف به بالطرق التقليدية (لأنّ ذلك غير ممكن).
بهذا المعنى، يصبح مفهوماً أن الإصرار على استمرار هذه الأجزاء الثلاثة في «حالة حرب» مع بعضها البعض، واستمرارها معزولة عن بعضها البعض على جميع المستويات، لا سيما من الناحية الاقتصادية، وهو الأمر الذي يظهر جلياً في الموقف المزدوج المعارض لأية معابر بين المناطق الثلاث، والمطالبة بمعابر لكل منها مع الخارج، بحيث تتكرس أنماط اقتصادية ثقافية سياسية ذهنية متباعدة ومنفصلة ومتحاربة حتى، بما يضمن إبقاء النار مشتعلة أعواماً وأعواماً...
يتطلب هذا المخطط العام، تنفيذ ما ذهب إليه معهد راند منذ 5 سنوات تقريباً بتركيزه على ما أسماه «التغيير من تحت لفوق» عبر انتخابات محلية في كل منطقة على حدة... أي إنّ المطلوب هو تثبيت لا حكومة واحدة، بل 3 حكومات على الأقل أو أكثر إنْ أمكنْ... أي تثبيت الوضع بمفرداته المختلفة جميعها... وهذا ما بات يفهمه بعمق تجار الحروب والحرامية والفاسدون من كل الجهات السورية، وباتوا يضبطون إيقاعهم على أساسه، ويغازلون الولايات المتحدة من تحت ومن فوق الطاولة، سواء كان ذلك الغزل مباشراً، أو عبر كيل الاتهامات والشتائم والألعاب القذرة ضد أعداء وخصوم الولايات المتحدة، حتى إذا كان هؤلاء «حلفاء»...
«نحن فقط نناقش الفكرة نظرياً»
خطوة أخرى مهمة ضمن الجهود «المستنقعية»، هي البدء في تعميم الحديث عن التقسيم و«مناقشته» والنظر في «سلبياته وإيجابياته»!! أي كسر الحواجز النفسية مع الفكرة وتحويلها إلى «مجرد نقاش».. وإليكم مثالاً:
في حلقة نقاش نظمها معهد الشرق الأوسط ومقره الولايات المتحدة في منتصف آذار، تسأل مديرة النقاش: «هل من الممكن أن تكون سورية موحدة مرة أخرى؟» ثم تضيف «هل هناك مساحة للسوريين... للعيش معاً في سورية مرة أخرى؟». وبعد أن يُجيبها معظم المتحدثين، وكلهم سوريون، نعم سيكون ذلك ممكناً، تُعيد مديرة الجلسة صياغة السؤال بالشكل التالي: «لماذا هذا ضروري أصلاً؟ هل هذه فكرة جيدة (بقاء سورية موحدة) بالنظر إلى كل ما حدث، وبالنظر إلى الحقائق على الأرض؟ هل من الواقعي أن يكون لدينا سورية ديمقراطية موحدة أم أنه من الواقعي، إن لم يكن مرغوباً، أن يكون لدينا نوع من سبع أو ثماني دول شبه مستقلة؟»
تساهم في الحفلة أيضاً بعض الشخصيات السورية، والتي ينتمي عدد منها، وبحكم مصادفة عجيبة حقاً، إلى «منشقين» من مراتب وظيفية عالية نسبياً... حيث ينظّر هؤلاء لانتهاء مفهوم السيادة الإقليمية للدولة، وقيام مفاهيم أخرى جديدة، محصلتها ليست قبولاً بتقسيم الأمر الواقع فحسب، بل اعتباره خياراً أفضل وأكثر رشادة!
ولا يمكن ضمن استذكار الإسهامات السورية من مختلف الأطراف أنّ ننسى ما يجري من تغذية صارخة لفكرة التقسيم، عبر خطابات وأفعال يصل بعضها إلى مستوى التهريج عبر وضع حجر أساس هنا وطوبة أساس هناك. وهذا أمر يحدث منذ فترة، حيث يلقي البعض أفكاراً عن إنشاء مراكز بديلة عن دمشق «تنافسها»؛ بما في ذلك إنشاء جيش «منافس»، ونظام عدالة، واقتصاد، والإصرار على إبقاء «مناطقهم» منفصلة عن المناطق السورية الأخرى... وإلخ.
إلى الأمام
أصبح من الواضح أن السياسة الأمريكية في سورية تتمحور حول الحفاظ على حالة الحرب، ليس بين السوريين فقط، بل وفي كامل الإقليم، وعبر تحقيق أكبر استنزاف ممكن. وحالة كهذه يمكن دعمها بشكل أكبر من خلال ضمان الحفاظ على تقسيم الأمر الواقع... يضاف إلى ذلك كله طبعاً، الوضع الإنساني والاقتصادي المتدهور تحت إجرام الفاسدين الكبار وإجرام العقوبات...
كل ذلك يعني شيئاً واحداً واضحاً: لا يجوز الوقوع في وهم احتمال التوافق مع الأمريكي بأي شكل من الأشكال؛ الحل الفعلي يمكن أن يبدأ فقط مع التطبيق الفعلي للقرار 2254 بكامل بنوده، وحينها فقط سيضطر الأمريكي إلى الالتحاق... قبل ذلك، وكما عبّر جيفري تماماً حين سُئل عن الوجود العسكري الأمريكي في سورية، موضحاً أنّ الحساب الإجمالي هو أنّ الوجود هو بأعداد قليلة (ما يعني تكلفة قليلة) ولكن بنتائج وفعالية كبيرة، ليختم بأنّ تلك الفعالية هي تحويل سورية إلى مستنقع... هذه ليست سياسة إدارة ترامب، هذه ليست سياسة إدارة بايدن... هذه سياسة الولايات المتحدة في سورية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1012