على أستانا أن تتجاوز نفسها، وبسرعة!
يمكن القول إنّ عاماً كاملاً قد مرّ دون معارك عسكرية كبرى، وهذا الأمر يحصل للمرة الأولى منذ بدأت المعارك.
إنّه لأمرٌ إيجابي بلا شك أن المعارك العسكرية قد توقفت؛ على الأقل لأنّ ذلك يحقن دماء سوريين كانوا يقتلون بالعشرات وأحياناً بالمئات بشكل يومي، ولكنه إيجابي أيضاً لأن توقف المعارك يؤمّن حالة هدوء نسبي تمهد الطريق باتجاه الخروج من الكارثة عبر الحل الشامل للأزمة بتطبيق القرار 2254 كاملاً.
ولا جدال بين مؤيدي عملية أستانا ومعارضيها، في أنها هي بالذات من سمحت بتأمين حالة الهدوء النسبية هذه عبر جملة من المبادرات والأعمال بينها بالتأكيد مناطق خفض التصعيد.
من المعارك الحامية إلى الاستنزاف
خلال 2016 وما تلاه حتى نهايات 2018، تم توجيه ضربات قاصمة لداعش وأشباهها، وعلى يد الروس بالدرجة الأولى. الأمر الذي بتركيبه مع مسار أستانا، طوّق الصراع العسكري شيئاً فشيئاً وصولاً إلى ما نصفه الآن بأنه مرور عامٍ كامل تقريباً دون أية معارك تذكر.
بإنهاء طور المعارك الحامية، فإنّ سيناريو إنهاء سورية كوحدة جغرافية سياسية بالأداة العسكرية والإرهابية خاصة، كان قد سقط. ولكنّ السيناريو البديل كان جاهزاً مما قبل انتهاء المعارك العسكرية؛ ونقصد سيناريو الاستنزاف...
نقاط المراقبة والتخوم المختلفة التي رسمتها أستانا، كان المقصود منها بالأساس منع الجهات السورية من استمرار قتل بعضها البعض، الأمر الذي كان لعبة بيد المتشددين من الأطراف السورية ومن خلفهم الغربيون الذين إما يتوافقون مع تلك الأطراف مباشرة أو عبر وسطاء، أو يتقاطعون معهم في المصالح.
ولكن وظيفة هذه المتاريس، مع انتهاء عمليات القتال، ومع ارتفاع مستوى العقوبات الاقتصادية والطريقة الانتقائية بين رفع وتشديد، حولت وتحول هذه المتاريس إلى أسوارٍ صينية بين المناطق السورية المختلفة يزداد ارتفاعها يوماً وراء الآخر.
يظهر ذلك بشكل واضح في الهستيريا التي تصيب الغرب لدى أي حديث عن معابر بين المناطق السورية، وفي الهستيريا الموازية المناقضة شكلاً والمطابقة مضموناً للهيستيريا الأولى، حين يجري الحديث عن المعابر العابرة للحدود.
خطورة «أوقات السلم»!
إذا حاولنا التركيز على ما يجري فعلياً على الأرض السورية بمختلف مناطقها، وبعيداً عن الجدال وتراشق الاتهامات، وخاصة المتعلق باللجنة الدستورية وبالعملية السياسية، فإننا سنجد أنّ المناطق السورية جميعها تشترك في جملة أمور واضحة:
أولاً: الانهيار الاقتصادي يشمل جميع المناطق السورية، وإنْ كان يأتي أشد أو أقل شدة في جانب من الجوانب في هذه المنطقة أو تلك، ولكن الحالة العامة هي حالة انهيار شامل.
ثانياً: كما أنّ عملية الانهيار واحدة، فإنّ أسبابها الجوهرية أيضاً واحدة؛ فهنالك العقوبات من جهة، والتي لا توفر أحداً وإنْ كان ضغطها يحمل بعض الفوارق بين منطقة وأخرى. وهنالك تقطع أوصال البلاد الذي يشوّه الدورة الاقتصادية الطبيعية، ويخلق حالة فراغ يملؤها الانتهازيون بعمليات نهب واسعٍ عبر الاستيراد والتصدير في ظل أسعار صرف متغيرة يومياً. وهنالك أيضاً سيطرة الفساد الكبير الذي يكاد يكون نسخة واحدة في كل مناطق سورية، بما يتضمنه ذلك من تفاصيل الحواجز والخوات وصولاً إلى الصفقات الكبرى بأنواعها وخاصة الاستيراد والتصدير (وهذا بترك التجارة السوداء جانباً)... وفوق ذلك كلّه، وربما كأحد أساساته، فإنّ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، ما يعني أنّ السيطرة في كل منطقة على حدة هي سيطرة السلاح بالدرجة الأولى والثانية والثالثة وبعد ذلك يمكن الحديث عن «الديمقراطية»، وسيطرة السلاح هذه متداخلة دائماً مع سيطرة الفساد الكبير، وهذا من طبيعة الأمور التي يعرفها الناس بشكل واضح وعياني...
ثالثاً: المشترك طوال السنة الماضية، والأشهر الستة الأخيرة بشكل خاص، في المناطق السورية الثلاث، هي أنّ النشاط والاستهداف رقم1 بالمعنى السياسي ضمن «مرحلة الهدوء النسبي»، ليس تنفيذ 2254 وليس الحل السياسي الشامل، وليس محاولة إعادة توصيل البلاد ببعضها البعض، بل «الانتخابات»، حيث تقدم الأطراف المسيطرة في كل منطقة من المناطق الثلاث روايتها الخاصة عن ضرورة خوض الانتخابات (استجابة لاستحقاقات شعبية ولضرورات تنظيمية، أو استجابة لاستحقاقات دستورية، أو كأداة في منازعة الشرعية... وإلخ). وينبغي التذكير دائماً أنّ الانتخابات إياها لن تجري إلا وفقاً لما ذكرناه سابقاً؛ أي حيث «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»...
بكلام آخر، فإنّ توقف الحرب وعدم الوصول إلى الحل، يعني استمرار سيطرة السلاح في كل مناطق سورية، ويعني دفعاً إضافياً باتجاه التقسيم، وخاصة عبر التحكم بالعقوبات تشديداً وتخفيفاً، وعبر خلق «شرعيات» افتراضية بناء على انتخابات تجري في أجزاء من سورية وليس فيها كلها، وتحت سيطرة السلاح...
تجاوز أستانا
لا شك أنّ المعني الأول بمنع تقسيم سورية وبإعادة توحيدها وعبر الحل السياسي و2254 وعبر التغيير الجذري الشامل لمصلحة السوريين، هم دائماً السوريون أنفسهم من كل الأطراف، وهذا ما أكدت وتؤكد عليه قاسيون وما تمثله بالمعنى السياسي بشكل دائم، وبشكل خاص فإنّ المعني هم الوطنيون من الأطراف المختلفة، والذين عليهم توحيد جهودهم ضد المتشددين من الأطراف المختلفة أيضاً... وهذا أمر واضح ولا مجال للهروب مما يرتبه على الوطنيين من مهام واستحقاقات.
ولكن من جهة أخرى أيضاً، وبما يتعلق بالصراع الدولي الجاري في العالم بأسره، وبلدنا أحد نقاط اشتعاله الأساسية، فإنّ ما يجب أن يكون واضحاً بالنسبة لروسيا بالدرجة الأولى، ومن ثم لبقية أطراف أستانا، أنّ الانجازات الثلاثة الكبرى التي جرى تحقيقها، ما تزال قابلة للعكس 180 درجة... بل وهي مهددة بذلك في حال مر وقت كافٍ لحدوث ذلك؛ وبالتفاصيل:
أولاً: بالنسبة لداعش والفصائل الإرهابية الشبيهة بها، فإنّ عملية القضاء عليها جرت بالدرجة الأولى بيد الروسي... ومع ذلك فإنّ المرحلة الأخيرة من «الهدوء النسبي»، شهدت وتشهد إعادة تنشيط لخلايا داعش في عدة أماكن في سورية.
ثانياً: بالنسبة لمناطق خفض التصعيد وحقنها للدماء وتخفيض مستوى العنف، فإنّ هذه المناطق نفسها، أو جزء منها بطبيعة الحال (لأنّ الانقسام بين مناطق ثلاث في سورية اليوم ليس انعكاساً كربونياً لأستانا، بل يسهم فيه استمرار وجود القوات الأمريكية المحتلة في الشمال الشرقي) ومع استطالة مرحلة «الهدوء النسبي»، فإنها تتحول كما أسلفنا إلى مناطق تفصل بينها أسوار صينية ترتفع يوماً بعد آخر.
ثالثاً: بالنسبة للجنة الدستورية، والتي لا شك في أنّ الدافع الأساسي وراء تشكيلها كان أستانا نفسها، فإننا نرى بالتجربة الملموسة أنها لن تصل إلى مكان ضمن الإحداثيات الحالية، بل وبات البعض يستخدمها كآلية إلهاء وإشغال للهرب من جوهر الحل السياسي وجوهر القرار 2254.
رابعاً: انقسام البلاد بهذا الشكل بما يسببه من تقطع في الدورة الاقتصادية الطبيعية، مضافاً إليه الحصار والفساد الكبير، كل ذلك يجعل من الهدوء النسبي هذا، قنبلة مؤقتة نزعم أنها تحمل من الآثار التدميرية ما هو أشد وأخطر من كل ما مرّ حتى الآن، خاصة وأنّ المطلع لا يغيب عنه أنّ الصهاينة بالدرجة الأولى ومعهم آخرون يحاولون في هذه اللحظات بالذات، ومن فوق الطاولة وتحتها، توجيه الضربة القاصمة لوحدة سورية ووحدة شعبها بكل الأدوات الممكنة، الاقتصادية والقومية والسياسية والثقافية وإلخ وبالتعاون مع متشددين يرون العالم بأسره من خرم إبرة مصالحهم التافهة والأنانية والضيقة...
محصلة
سياسة الولايات المتحدة ثابتة لم تتغير بما يخص سورية على الأقل منذ 2016، أي منذ بات واضحاً تماماً أنّ «الحسم العسكري» لأي طرف غير ممكن... والنصب والاحتيال الرسمي وغير الرسمي الأمريكي عن الانتقال من إدارة إلى أخرى، وعن إعادة النظر بالسياسيات، وعن عدم الوضوح وإلخ، وإنْ مرّ على محللين سياسيين فينبغي ألا يمر على الدول...
السياسة الأمريكية هي تلك التي لخصها جيفري: «تكاليف محدودة تأثير كبير»، وهذه ليست سياسة جديدة... فهي جوهر السياسية التي أخذت عنوان «سباق التسلح» في القرن العشرين...
هذا كلّه، يستدعي التفكير ملياً وسريعاً، بنقلة نوعية سواء ضمن أستانا أو خارجها بما يدفع فعلاً باتجاه الحل السياسي وباتجاه إيقاف الانهيار، وإلا فإنّ كل ما تمّ إنجازه قابل للعكس...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1013