د. جميل: الحركة الشعبية مستمرة لعقود ولا مفر من التغيير .. نسف سايكس بيكو بوحدة شعوب الشرق واتحاد دُوله

د. جميل: الحركة الشعبية مستمرة لعقود ولا مفر من التغيير .. نسف سايكس بيكو بوحدة شعوب الشرق واتحاد دُوله

انعقد منتدى فالداي حول الشرق الأوسط بنسخته العاشرة يومي 30 و31 آذار الماضي، وشارك ضمنه عدد من الباحثين والسياسيين والمسؤولين من بلدان المنطقة ومن بلدان حول العالم.

وشارك ضمن قسم من فعاليات هذا المنتدى د. قدري جميل أمين حزب الإرادة الشعبية، وفيما يلي تنشر قاسيون المداخلات التي تقدم بها د. جميل خلال اشتراكه في المنتدى...

حركة الناس ستستمر لعقود ولن تنتهي قبل إنجاز مهامها في التغيير

إذا أردنا أن ننظر بعمق إلى ما جرى في السنوات العشر الماضية، وبشكل خاص حركة الشارع، أو ما يسمى «حركة الجمهور» أو بكلامٍ أخر أكثر علميةً درجة النشاط السياسي العالي في المجتمع، الذي لفّ المنطقة كلها، ما هو سببه؟ سببه الضرورات؛ الضرورات التي طرحت نفسها سياسياً- اقتصادياً- اجتماعياً. والمشكلة الأولى: هي أن القوى السياسية الموجودة كانت في حالة موت سريري، أي: إنها كانت ضمن فضاء سياسي قديم يحتضر. المشكلة الثانية: هي أن الفضاء السياسي الجديد الذي يعبر عن هذه الحركة لم يكن قد تشكل بعد. أي: إننا كُنّا في حالة مخاض بين قديمٍ يموت ولم يمت بالمعنى السياسي- البنية السياسية، وبين جديدٍ يولد ولم يولد بعد. هذه الحالة التي عبر عنها غرامشي بالقول: إنه في اللحظة بين القديم الذي يموت والجديد الذي لم يولد تظهر الوحوش.

ولكي نفهم الحالة تماماً أقترح أن نوسع دائرة النظر. كل المجتمعات تمر في حالات من هذا النوع؛ ولوحظ منذ سنة 1789، أي: منذ الثورة الفرنسية، درجة نشاط سياسي عالٍ للناس تستمر لفترة طويلة، تنزل الجماهير إلى الشارع ولا تعود إلى المنزل إلّا بعد إنجاز مهمتها، وهذه الفترة عادةً- إذا تابعنا جيداً- هي خمسون عاماً، أول نزول حركة واسعة للجماهير كانت 1789، انتشرت في كل أوروبا- أنجزت مهماتها رمت بالفضاء السياسي القديم، غيرت بنية الدول ثم عاد الشارع إلى حالة ركود لمدة خمسين عاماً. في المرة الثانية التي جرى فيها نهوض، انتقل مركز الحركة إلى الشرق لأن العالم (بالمعنى الرأسمالي) كان يعتبر فقط أوروبا... 1905 (في روسيا) والذي تثبت عام 1917 عبر حركة واسعة لنشاط الناس السياسي في كل العالم الأول استمرت عملياً حتى عام 1945 بعد ذلك جرت العودة التدريجية إلى المنزل من قبل الناس.
2010 هي لحظة حركة جديدة، وهذه الحركة لا تقدر لا بعشرة ولا عشرين عاماً. حتى نعطيها تقييماً صحيحاً، علينا أن نتابع ونرى كيف ستتطور، مع الأسف الشديد بدأت من دون قوىً سياسية، أي: دون ظرف ذاتي جاهز كي يستقبلها؛ بُنى الدولة السابقة تُعيق الحركة وفوقها أتى التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة كي يشوه هذه الحركة، ولكن هل هذا يعني أن الضرورة قد انتفت؟

الضرورة لم تنتفِ، بل تثبت نفسها مرةً أخرة، وستعاد كرةً أخرى ومرةً أخرى كي تُصاغ البرامج بنهاية المطاف، والتي ستحملها الناس من أجل إحداث ذلك التغيير العميق السياسي- الاجتماعي- المطلوب. إذا لاحظتم فإنه لا توجد برامج حقيقية في كل الحركة التي جرت في السنوات العشر الماضية؛ جرى اختصار الموضوع بكلمة واحدة «ديمقراطية» وماذا بعد؟ ما هو البرنامج وما هو المحتوى؟
إلى الآن لا قوى سياسية ولا دول ولا مراكز أبحاث تضع برامج، أحدهم، وهو مسؤول مهم، قال لي ذات مرة: القوى اليسارية في المنطقة ليس لها مستقبل، المستقبل للقوى الدينية والقومية. قلت له: هذا ليس مهماً، التسمية هي مجرد طربوش، المهم هو البرنامج، وعندما تقوم بطرح برنامج يُعبِّئ ويتطابق مع مصالح الناس فإنها تسير وراءك مهما كان طربوشك، المشكلة إلى الآن أنه لم تتبلور تلك القوى السياسية ضمن الفضاء السياسي الجديد الذي يصيغ برامج تُعبَّئ الناس كي تسير وراءها كي تحدث ذلك التغيير، وفي النهاية سيحدث ذلك عندما تنضج تلك القوى بفعل حركة التاريخ.

مشكلاتنا موجودة في الشيفرة الجينية لسايكس بيكو

أريد أن أنطلق من نقاش مواضيع أساسية طُرحت في جدول الأعمال: (هل لطموحات تركيا وإيران الإقليمية التوسعية حظ في النجاح؟). أجيب فوراً، وبعدها سأبرهن على جوابي: الحظوظ هي صفر، وليس فقط حظوظ تركيا وإيران، ولكن أيضاً حظوظ «إسرائيل».
ولنعرف لماذا الحظوظ هي صفر، يجب أن نوسع قليلاً دائرة البحث؛ سأعود لسايكس بيكو.
كل مشاكل المنطقة الحالية موجودة بالشيفرة الجينية لسايكس بيكو، سايكس بيكو هي تقاسم الغنائم بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، والغنائم مأخوذة من المهزومين، ولكن هل هؤلاء المنتصرون السابقون هم اليوم أيضاً منتصرون؟ أعتقد أن كل الوقائع التاريخية الحالية تشير إلى العكس تماماً.
ماذا تعني سايكس بيكو؟ سايكس بيكو تستهدف فضاءً جغرافياً محدداً بفيروسات مشكلات حدودية وإقليمية بين كل بلدان الإقليم الممتد من قزوين إلى المتوسط. وخلال المئة سنة الماضية تمت السيطرة عليه بعدة وسائل متتابعة...

المرحلة الأولى: هي الاستعمار القديم بوسائله الكلاسيكية التي نعرفها. انهيار نظام الاستعمار القديم نهاية الحرب العالمية الثانية، ولّد بعد عقدٍ أو أكثر قليلاً المرحلة الثانية المتمثلة بمنظومة الاستعمار الجديد بآلياته المعروفة (الأسعار، التبعية التكنولوجية، القروض، هجرة العقول)، وهي آليات كانت فعالة جداً خلال مرحلة الاستعمار الجديد، ومن خلالها جرى إحكام السيطرة على هذه المنطقة.
المرحلة الثالثة: جاءت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث الاستعمار الجديد لم يعد ممكناً له أن يحافظ على مكاسبه ومواقعه بالأساليب التي ابتدعها في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ولذا نشأت الحاجة لأسلوب جديد أسموه (نظاماً عالمياً جديداً، قطباً أوحدَ)، جوهره علمياً هو: حالة تركيبية، من الاستعمار القديم والجديد معاً، شهدنا هذه المرحلة من 1991حتى 2010. وبعد ذلك ماذا؟ بعد ذلك نظرية الفوضى الخلاقة، التي هي بجوهرها محاولة جدية، للانتقال من السيطرة على المنطقة (في حال لم يعد ذلك ممكناً)، إلى تفتيتها، تفتيت المفتت سابقاً، أي: سياسة التذرير Atomization، وهذه العملية جارية حتى هذه اللحظة.

1012-25

منطقتنا فضاء اقتصادي واحد

ننتقل إلى النقطة الثانية، ما هي هذه المنطقة (ما يسمى الشرق الأوسط)؟ إذا أردنا الابتعاد عن سايكس بيكو والعودة بالتاريخ إلى الوراء، فهذه المنطقة من قزوين إلى المتوسط، وأقصد تحديداً إيران تركيا العراق وبلاد الشام، هذه المنطقة هي منطقة واحدة، أولاً: بحكم التاريخ، تكوين نفسي وثقافي متقارب بغض النظر عن القوميات، وثانياً: أستطيع أن أدّعي كاقتصادي أنها فضاء اقتصادي واحد، والمناطق الاقتصادية في العالم، التي تستطيع تأمين تطوراً ذاتياً هي مناطق قليلة، أربعة أو خمسة أو ستة. مثلاً: أوروبا نفسها ليست منطقة اقتصادية، لأنها لا تستطيع الاكتفاء ذاتياً. الاتحاد السوفيتيي، من شرقه إلى غربه، كان منطقة اقتصادية، ولذلك لم يفلح الحصار الغربي في أوائل أيام نشوء الدولة السوفيتية في تحقيق شيء. منطقتنا هي فضاء اقتصادي واحد، وهذا يضع أساساً لشيء يمكن العمل عليه لاحقاً. الآن طبعاً، الضغط الاستعماري السابق على شعوب هذه المنطقة خلق ردود فعل، وطموحات للإفلات من هذا الضغط، وأخذت ببعض الأحيان شكلها الأقصى. ولا ننكر اليوم، أنه في ظل الوضع العالمي المستجد، هناك فراغ في منطقتنا، هذا الفراغ تحاول القوى الطامحة الإقليمية تعبئته، ولكن هل لهذا الطموح حظ في ظل منظومة العلاقات الدولية وتعقيدات الوضع في المنطقة؟ أعتقد أن الحل الوحيد اليوم في ظروف المنطقة، هو وحدة شعوب الشرق واتحاد دولها، بالشكل الذي ترتئيه مناسباً، لذلك كل محاولات الهيمنة الإقليمية من أينما أتت لا حظّ لها في النجاح لأسباب موضوعية وتاريخية، الحظ الوحيد الممكن، وهذا يحتاج إلى مرحلة تاريخية معينة كي يتم وعي ذلك، هذه العملية ستأخذ وقتها، ولكنها الطريق الوحيد للخروج في المنطقة من فضاء الاستعمارين القديم والجديد والقطب الواحد والفوضى الخلاقة إلى فضاء جديد تستطيع فيه هذه الشعوب أن تلعب الدور المطلوب منها، والذي ترتضيه لنفسها.
أعتقد أن الهندسة الاجتماعية التي تمارسها الولايات المتحدة، هي هندسة هدامة، لم تعطِ النتائج المطلوبة منها، وهذا سيؤدي في مرحلة قادمة أعتقد أنها قريبة، إلى أن تجد القوى الحيّة في هذه الشعوب الطرق المناسبة لمقاومتها، وإقامة البديل المناسب لها.

استقلالية التكوينات السياسية لبلداننا نسبية فقط!

بما يخص الاستقلالية النسبية لبلدان المنطقة في تكوين بناها السياسية، فإنّ هذه الاستقلالية التي انخفضت كثيراً مؤخراً، لم تكن موجودة بشكل مطلق تاريخياً، هي دائماً كانت موجودة نسبياً، ولكن اليوم الموضوع أسوأ.
كي نفسر هذه الظاهرة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، أنّ النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية اهتز اهتزازاً شديداً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأصبح هنالك عدم توازن في الأدوار العالمية لفترة معينة على الأقل حتى 2010، ولكن ماذا نتج عن ذلك إقليمياً؟
لقد أثر ذلك على كل العالم وكل الأقاليم. المشكلة بالنسبة للمنطقة، هي أن النظام العربي فعلياً انهار، لم يعد موجوداً. انهيار النظام الرسمي العربي المتمثل رسمياً بالجامعة العربية خلق فراغاً سمح لهذه الظواهر التي تحدثتم عنها بأن تقوى في الفترة الحالية، هذا من جهة.

«الغزوات» الإقليمية تعبير عن أزمات داخلية، واقتصادية خاصة

لست ضد أنّ تركيا وإيران هما قوتان إقليميتان ولهما مصالح، ولكن في مداخلتي تحدثت تحديداً عن الطموحات الإقليمية التوسعية؛ وجود طموحات إقليمية هو أمر مشروع، ولكن طموحات إقليمية توسعية فهو أمر غير مشروع. هذه القضية يجب أن تصبح مفهومة لديهم وبالتجربة ستصبح مفهومة، وبالتالي، أنا موافق تماماً على ما جاء في كلام السيد بكلانوف عن أن التعاون والتبادل وتكوينات مشتركة بين بلدان المنطقة هي التي عملياً ستؤدي إلى تحقيق هذه الطموحات.
بالتجربة العملية ماذا رأينا؟ إلى ماذا أدت الطموحات الإقليمية التوسعية؟ سنأخذ فقط مثال تركيا، عندما يكون هناك أي توسع- أي طموح إقليمي توسعي بالقوة، هذا يعكس شيئاً خطيراً؛ أعتقد أنه يعكس مشكلة داخلية أولاً، عندما يحملون البندقية ويذهبون إلى أماكن خارج الحدود، فهذا معناه أن هناك مشكلة في الداخل واقتصادية بالدرجة الأولى. بالعودة إلى الكلاسيكيات يمكن فهم هذا الموضوع...
ما هي نتائج الحملة الليبية على الاقتصاد التركي؟ نتائج الغزوة التركية في سورية إلى الآن ما هي؟ خراب للطرفين، ولا أريد أن أذكر الغزوات الأخرى والحملات الأخرى. لذلك الحياة والتجربة نفسها ستجبر أصحاب العلاقة من ذوي الطموحات الإقليمية- والتي هي مشروعة إن جرت بشكل سلمي وعن طريق التفاهم بين الشعوب ودول المنطقة... شعوبهم ستجبرهم على تصحيح المسار، لذلك نحن نرى نشوء فضاء جديد وهذا طبيعي في ظل التغيرات العالمية الجارية، ولكن كي يأخذ مساره الصحيح، أعتقد أنه يلزمنا القليل من الوقت...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1012
آخر تعديل على الثلاثاء, 06 نيسان/أبريل 2021 20:32