جيفري يريد لـ«مهمة المستنقع» أن تستمر... «الجمود/ الطريق المسدود هو الاستقرار»!
ريم عيسى ريم عيسى

جيفري يريد لـ«مهمة المستنقع» أن تستمر... «الجمود/ الطريق المسدود هو الاستقرار»!

بعد أقل من أسبوع على إعلان تقاعده، أدلى جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص لسورية ومبعوث واشنطن لدى التحالف الدولي لهزيمة داعش، بجملة تصريحات لموقع Defense one يوم الخميس الماضي 12 تشرين الثاني حول ما ينبغي أن تكون عليه سياسة الولايات المتحدة في سورية. وحثّ الرجل الذي كانت مهمته الأساسية وفقاً لكلامه «تحويل سورية إلى مستنقع»، الإدارة الأمريكية الجديدة، المقرر أن تتولى السلطة في كانون الثاني 2021، على الاستمرار بالسياسة الحالية، أي السياسة التي كان هو المسؤول التنفيذي لها...

في وقت سابق من هذا العام، أعلن جيفري خلال حوار في معهد هدسون أن "وظيفته هي جعل [سوريا] مستنقعاً للروس". من المؤكد أنه عمل بجد لمحاولة تحقيق ذلك، وبينما ذهب إلى أبعد من ذلك في السعي لتحقيق هدفه، يبدو من تعليقاته الأخيرة أنّ هدفه لم يتحقق بالكامل، أو أنه لم يصل به إلى مستوى مرضٍ من الضرر والتخريب. على هذا النحو، وبناءً على تعليقاته، من الواضح أنه يحاول الدفاع عن «قضيته»؛ ليس فقط للدفاع عن السياسة التي نفذها نيابة عن واشنطن في سورية، ولكن أيضاً للدفع باتجاه البقاء في المسار نفسه.

ولكي يتمكن من القيام بذلك، يتعين على جيفري القيام بعدة أشياء، من بينها ما يلي:

أولاً، عليه أن يدافع عن السياسة الأمريكية الحالية في سورية، والتي لم ينفذها فحسب، بل وساهم إلى حد كبير في رسمها. من أجل تحقيق ذلك، كل ما على جيفري فعله هو إظهار "النجاحات" في سورية التي سيثمّنها أي سياسي أمريكي (أو حتى مواطن عادي). ويتحقق ذلك من خلال الإشارة إلى كيفية تحقيق هذه السياسة لـ«حرمان روسيا وسورية من المكاسب الإقليمية ومنع فلول داعش من إعادة تشكيل نفسها». ثم يضيف لاحقاً أن تلك السياسة قد قاربت الوضع في الشرق الأوسط "من خلال عدسة جيوستراتيجية ركزت على إيران وروسيا والصين، مع إبقاء مرض الإرهاب الإسلامي المنتشر تحت السيطرة".

من أجل مزيد من الدعم للسياسة الحالية، ينبغي أيضاً إجراء مقارنة مع السياسات السابقة، وتوضيح فشلها مقابل "النجاحات" المذكورة أعلاه للسياسة الحالية. على وجه التحديد، تمت الإشارة إلى السياسات الأمريكية في المنطقة خلال الإدارتين السابقتين - بوش وأوباما. في هذا الصدد، يلاحظ جيفري أن السياسة الحالية في "الشرق الأوسط قد أسفرت عن منطقة أكثر استقراراً من تدخل بوش في العراق أو نهج أوباما الذي جعل الأمور أسوأ، وأضعف الولايات المتحدة في المنطقة».

لضمان دعم أقوى ولضمان الاستحواذ على أي شخص قد يظل على الحياد، يلقي جيفري "بمزايا" أخرى للسياسة الأمريكية في المنطقة من خلال لعب ورقة "إسرائيل"، قائلاً إن النهج المتبع في الشرق الأوسط قد أكسبت الولايات المتحدة أصدقاء من خلال "التعزيز السياسي التاريخي بين إسرائيل وبعض دول الخليج". هذا في إشارة إلى ما يسمى بـ "صفقة القرن" ومؤخراً موجة التطبيع التي تجتاح المنطقة، والتي تعتبر من وجهة نظر الولايات المتحدة إنجازاً هائلاً، ناهيك عن أن التحدث ضدها هو عملياً انتحار سياسي في الولايات المتحدة.

ثانياً، عليه أن يفصل السياسة الأمريكية القائمة في سورية عن الإدارة الحالية، وتحديداً عزلها عن ترامب. من خلال القيام بذلك، سيضمن جيفري ألا يُنظر إلى هذه السياسة على أنها "سياسة ترامب" حتى لا يتم التخلي عنها بناءً على دور الولايات المتحدة وصورتها الدولية المتدهورة بسبب كثرة قرارات ترامب التي أثارت عداء العديد من الأصدقاء والحلفاء التاريخيين. لذا، فإن إحدى النصائح التي طرحها جيفري هي أنه "من المهم جداً مع مجيء الفريق الجديد، ألا يتعاملوا على أساس أنّ أي شيء قدمه ترامب لا بد أن يكون سيئاً". من خلال ذلك، يحاول تقديم نداء «عقلاني» لعدم رفض أي شيء من خلال وصفه بـ "سياسة ترامب".

ومع ذلك، قد لا يكون هذا كافياً، لذلك يذهب إلى أبعد من ذلك في فصل نفسه وسياسة الولايات المتحدة في سورية عن ترامب، أو على الأقل القول إن القرارات المتعلقة بسورية لم تكن قرارات ترامب. هذا أمر أساسي، لذلك تم القيام به في بداية المقالة، مشيراً إلى أن جيفري "يقر بأن فريقه يضلل بشكل روتيني كبار القادة بشأن عدد القوات (الأمريكية) في سورية"، في إشارة إلى قرار ترامب بالاحتفاظ بـ 200 جندي أمريكي فقط في سورية. حتى أن جيفري يتباهى بالكذب بشأن هذا بالقول إنه وفريقه "كنا نلعب دائماً ألعاب الإخفاء حتى لا يتوضح لقيادتنا عدد القوات الفعلي الذي لدينا هناك" وأن "العدد الفعلي للقوات في شمال شرق سوريا أكبر بكثير من المئتي جندي الذين وافق ترامب على بقائهم هناك في عام 2019". بل إنه يقول بسخرية واضحة: "عن أي انسحاب من سورية يجري الحديث؟ لم يكن هناك انسحاب من سورية أبداً"، رداً على أوامر الانسحاب التي أصدرها ترامب في مناسبتين على الأقل، في 2018 و 2019.

لكن في المقال، يربط جيفري هذا العصيان الواضح لأوامر ترامب بـ "النجاحات" التي تمت مناقشتها أعلاه، للتأكد من أن أفعاله أو بالأحرى السياسة التي كان ينفذها كانت ناجحة. هناك أيضاً تلميح واضح إلى أن هذه ليست مسألة عصيان شخصي للأوامر، ولكن يمكن للمرء أن يقرأ بين السطور أن ترامب، الذي هو في الواقع القائد العام للقوات المسلحة، ليس في الواقع الشخص الذي لديه الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالتحركات والأعمال العسكرية الأمريكية. بطبيعة الحال، لا يستطيع جيفري القيام بذلك بمفرده. إذن، الرسالة هنا هي أن جيفري يستمع فقط لـ«المؤسسة الحاكمة» التي لها الكلمة الأخيرة بغض النظر عمن يجلس في المكتب البيضاوي.

لمجرد تبرئة نفسه شخصياً من الارتباط بترامب أو من معجبيه، يبدأ المقال بتذكير القراء بأن جيفري كان أحد الأشخاص الذين وقعوا على خطاب "Never Trump" في عام 2016، والذي أدان ترامب، في ذلك الوقت الذي كان لا يزال فيه مرشحاً رئاسياً لكونه خطيراً على الولايات المتحدة. فقط في حالة نسيان القارئ لذلك، يتم ذكره مرة أخرى لاحقاً في المقالة بالإشارة إلى أن جيفري لا يزال "متمسكاً بقراره بالتوقيع على الرسالة المفتوحة لعام 2016".

ثالثاً، على جيفري أن يدافع عن قضية الاستمرار في السياسة الأمريكية نفسها في سورية، والتي سيكون من الأسهل القيام بها إذا كان بإمكانه جعلها تبدو الخيار الأفضل أو حتى الخيار الوحيد القابل للتطبيق. ربما يكون القيام بذلك هو أصعب جزء في العملية ويجب أن يؤدي إلى النتيجة التي تمثلها العبارة الرئيسية في هذا الصدد، والتي تأتي في نهاية المقالة: "قبل كل شيء، لا تجربوا القيام بالتغيير". لا تجربوا "تحويل سوريا إلى الدنمارك... الطريق المسدود هو الاستقرار".

من الممكن طبعاً فهم ما يعنيه جيفري هنا، «الطريق المسدود» هو السياسة الحالية لجعل سورية مستنقعاً. الجمود هو الإبقاء على الأمور كما هي، حيث لا ينتصر أحد ولا يخسر أحد وتستمر الحرب ويستمر الصراع ويستمر الاستنزاف، عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً، إلخ - بسبب حالة الجمود هذه. الطريق المسدود في الحقيقة ليس استقراراً، ليس استقراراً بالنسبة لسورية ولا بالنسبة للإقليم بأسره ولا حتى لأجزاء كبيرة من العالم بما فيها خصوم الولايات المتحدة الأساسيون، ولكنّ عدم الاستقرار هذا، هو بالذات الاستقرار بالنسبة للولايات المتحدة...

يذكّر جيفري الإدارة الجديدة أيضاً بضرورة بقاء القوات الأمريكية للحفاظ على السياسة الحالية: "في معظم أنحاء سورية، يحافظ وجود القوات الأمريكية المتبقية على استقرار هش". وهكذا، فإن السماح للإدارة الجديدة بمعرفة أن سحب القوات الأمريكية من سورية ستكون له نتائج كارثية، بل وحتى تشجيعها على زيادة أعدادهم لإنقاذ هذا "الاستقرار الهش" من الانهيار. ومن هنا جاء البيان فيما بعد حول أهمية سياسة الجمود للحفاظ على الاستقرار.

وللحصول على تأييد المشككين بسياسته، فإنه يستحضر التاريخ بطريقة كاريكاتورية طارحاً أهمية «سياسة  الطريق المسدود»... "الجمود/الطريق المسدود وعرقلة التقدم والاحتواء ليس بالأمر السيئ... هذا ما فشلت في فعله دول قوية مثل  فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في الثلاثينيات (من القرن الماضي) ولأنها فشلت، وجدت نفسها مضطرة للقتال من أجل وجودها".

المثال مدعاة للسخرية حقاً، لأنّ ما فعتله الدول الغربية وسياستها التخريبية التي تعاونت مع هتلر ونفخته على أمل أن يدخل في حرب باتجاه الشرق فقط أي باتجاه الاتحاد السوفياتي، هي بالضبط ما أنتجت الحرب العالمية الثانية...

هل السبب هو سوء تربية جيفري؟

ما يسترعي الانتباه حقاً هو حجم الوقاحة منقطعة النظير التي يمتاز بها جيفري عبر تصريحاته المتتالية سواء بما يخص النصرة أو المستنقع أو الحديث الأخير الذي يلخص جوهر السياسة الأمريكية في سورية: الاستنزاف وعدم الوصول إلى حل. وقاحة ربما لا ينافسه فيها سوى ترامب نفسه الذي حاول جيفري في لقائه الأخير التبرؤ منه.

ما نعتقده هو أنّ جيفري هو فعلاً رجل المؤسسة الحاكمة من الأساس وليس رجل ترامب، أي أنّ وقاحته ووقاحة ترامب معاً ليسا سوى تعبيرين مختلفين عن وقاحة وإجرام النخبة المالية الأمريكية بتياراتها المختلفة، حتى وإنْ كانت التناقضات بينها شديد الحدة، ولكن ما يجمعها هو «فلقة واحدة» هي الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية الأمريكية بأسرها وفي القلب منها دولارها المتراجع.

ولكن أيضاً ينبغي أن نفهم تصريحات جيفري الأخيرة في ضوء إقالة وزير الدفاع الأمريكي وتصريحات وكيله يوم أمس حول ضرورة الإسراع في الانسحاب من الشرق الأوسط.

هذا يعني أن تصريحات جيفري الأخيرة هي جزء من الصراع الداخلي الأمريكي حول السياسات الخارجية لا اتجاه سورية فحسب بل والسياسات الخارجية الامريكية على العموم بين تيارين أساسيين أحدهما يرى ضرورة الانكفاء السريع والآخر يرى ضرورة تأجيل ذلك الانكفاء.

ضمن هذه الإحداثيات، فإنّ تصريحات جيفري بمثابة إعلان صريح عن رعبه من احتمال أن يقوم ترامب في أيامه الأخيرة بتنفيذ الانسحاب فعلاً، بعد طرد أولئك الذين لعبوا معه «لعبة الإخفاء»... ولكن يعكس أيضاً أنّه ليس مطمئناً لبقاء السياسة الأمريكية اتجاه سورية على حالها حتى عند استلام بايدن...

 

ملخص

وبالمجمل يمكننا أن نثبت النقاط التالية حول تصريحات جيفري الأخيرة:

أولاً، لدى جيفري مخاوف حقيقية وربما لديه مؤشرات قوية على أن السياسة الأمريكية في سورية قد تتغير قريباً، ويعتقد أن هذا التغيير قد يهدد هدفه المتمثل في تحويل سورية إلى مستنقع. وبالتالي، فهو يريد التأكد من أن السياسة التي عمل بجد في رسمها وتنفيذها لن تتغير بمغادرته.

ثانياً، من أجل الحصول على تأييد صانعي السياسة ولكن أيضاً عامة الناس، كان بحاجة إلى طرح أوراق اعتماده على الطاولة، من خلال توضيح «النجاحات»، وتذكير الجميع بالتهديدات (روسيا، إيران، الصين، داعش / الإرهاب الإسلامي)، وإظهار أنه ليس رجل ترامب. سيحظى جزء كبير من هذا بالدعم بين صانعي السياسات، ولكن يمكن أيضاً أن يكون له صدى لدى عامة الناس، وربما يعوّل على الفرصة الضئيلة بأن يكون هناك ضغط شعبي يدعم أيضاً استمرار السياسة الحالية في سورية، إن لم يكن عامة الناس، على الأقل بين أولئك الذين لديهم بعض هامش نفوذ.

ثالثاً، وهو مرتبط كثيراً بما ورد أعلاه، يريد جيفري أن يجعل من الصعب جداً على من يأتي بعده أن يقترح سياسة بديلة، مما يجعل من المستحيل تقريباً اقتراح خيار يمكن أن يقنع صانعي السياسة بأنه سيحقق نتائج أفضل للولايات المتحدة.

ما هو واضح بجلاء الآن، وبعد أيام فقط من إعلان رحيله، هو ما سبق أن وضحناه مراراً: على الرغم من الخطابات والتصريحات التي أدلى بها جيفري أو غيره، لم يكن القصد من السياسة الأمريكية في سورية أن تقود إلى حل سياسي وإلى تنفيذ 2254. في الواقع، لم يذكر جيفري مرة واحدة في هذه المقالة أي شيء عن الحل السياسي، بل على العكس تماماً، فهو يقترح ويدافع عن ويبرر سياسة "الجمود/الطريق المسدود"، والتي تعني بالضبط "إدامة الأزمة".

(النسخة الانكليزية)

لتحميل العدد 992 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
992
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين2/نوفمبر 2020 16:39