غادر بعض الممثلين الخشبة... لكن المسرحية مستمرة والجولاني بزيٍّ جديد!
تولت الإدارة الأمريكية الجديدة السلطة بعد أشهر مضطربة بين الحملات الانتخابية والانتخابات ومختلف الأحداث التي تلت ذلك. وبينما تجري التعيينات الجديدة، تسحب الإدارة الستائر ببطء للكشف عن المسرح. ويفترض بنا أن نعتقد أننا أمام مسرحية جديدة؛ مع ذلك، فإننا نرى في الواقع استمراراً للحبكة ذاتها، بل وللشخصيات ذاتها في كثير من الأحيان... مع أنه لا يمكننا أن ننكر أنّ الحبكة قد خطت بضع خطوات إلى الأمام، وكذلك الشخصيات... ألم يغير أحد أبطال المسرحية الأمريكية زيّه «بشكل جذري»؟ ونقصد الجولاني... أليس هذا بحد ذاته تطوراً كبيراً؟
الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لإيجاد طرق لرفع النصرة من قوائم الإرهاب، ليست جديدة، وقد ناقشناها في مقالات سابقة بما في ذلك مقال من شباط الماضي بعنوان «المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني». وآخر من نيسان الماضي بعنوان (أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة!).
بعد ذلك، بدا الموضوع وكأنه وضع على نار هادئة في خلفية المشهد الرئيسي. استمر الوضع كذلك حتى الأسبوع الماضي، عندما نشر الصحفي الأمريكي مارتن سميث على حسابه على تويتر أنه عاد لتوه من إدلب حيث تمت استضافته من قبل الجولاني الذي ظهر في صورة مع سميث مرتدياً قميصاً وسترة بدلة، ومغيراً بذلك ملابسه "الجهادية" المعتادة. ظهور الجولاني بهذا اللباس هو خطوة «طبيعية» في سلسلة من الظهورات المتتالية والمتدرجة هنا وهناك (بينها ظهوره في إدلب مؤخراً يتناول الفول في مطعم شعبي) للانتقال نحو صورة جديدة بوصفه مجرد رجل عادي بل ومسالم ويمكن التعامل معه. في اليوم التالي لانتشار الصورة، نشرت مجموعة الأزمات الدولية (التي كان روبرت مالي رئيسها ومديرها التنفيذي حتى وقت قريب جداً) مقالاً بعنوان (في إدلب السورية، فرصة واشنطن لإعادة بناء تصورها حول مكافحة الإرهاب).
تمهيد بالنار
منذ البداية، يضع المقال الأساس لجعل القارئ يعتقد أنه من الخطأ الفادح إبقاء النصرة على قائمة المنظمات الإرهابية بالقول إن «التسمية "الإرهابية" الملصقة بأقوى جماعة متمردة في إدلب تقوض وقف إطلاق نار حاسم، وتحجب المسارات المحتملة لتجنب مواجهة عسكرية». يقدم مؤلفو العمل حركة افتتاحية قوية من خلال وضع كلمة "إرهابي" بين علامتي اقتباس، مما يعطي إحساساً بأنها وصف غير مستحق وغير عادل جرى إسباغه على النصرة!
ثم يحاولون بعد ذلك إجبار القارئ على الاختيار بين شيء سخيف مثل التسمية، وبين تجنب كارثة عسكرية في إدلب. ورد في المقال لاحقاً أن "استمرار وضع هيئة تحرير الشام كمنظمة 'إرهابية' ... يمثل عقبة رئيسية" أمام تجنب العنف، وما هو مطلوب لجعل إدلب وسوريا بل العالم كله مكاناً أفضل هو مجرد سياسة تحدد معايير واضحة لهيئة تحرير الشام (والجماعات الإرهابية الأخرى) للتخلص من هذه التسمية.
في جميع فقرات المقال، قام المؤلفون بإخلاء مسؤوليتهم من خلال ذكر السلبيات المرتبطة بالنصرة، لكنهم يعاودون التأكيد دائماً على تقديم أمثلة على السلوك "الإيجابي" الذي يدعم اقتراحهم الرئيسي لطريقة التعامل مع هذه المجموعة، بالإضافة إلى التلميح هنا وهناك إلى أنّ النصرة أصبحت أكثر «سوريةً» مما كانت عليه. وإليكم بعض الصفات الأساسية التي يقدمها مؤلفو المقال للنصرة:
- إنها في الواقع تحارب الإرهابيين: فهي لم تقطع علاقاتها مع القاعدة والجهاديين المتشددين فحسب، بل تقاتلهم أيضاً في إدلب، من خلال مطاردة خلايا داعش وحراس الدين المرتبطة بالقاعدة، وقد جعلت ذلك أولوية لها إلى جانب قمع العناصر التي تعارض وقف إطلاق النار الهش في إدلب أو التي تهدد الاستقرار المحلي، وبالتالي فهي تساهم في حماية إدلب وسورية من أن تستخدم كمحطة لعمليات جهادية دولية.
- هي معتدلة: قيادة التنظيم تعمل بثبات لتصبح فاعلاً سورياً محلياً قادراً على حكم إدلب. وبينما يتمظهر حكمها عبر "حكومة الإنقاذ" الإسلامية، فإنها مع ذلك ليست «حكومة قاسية».
- تعامل النساء والأقليات بشكل جيد: وهذا التوصيف الأثير للجمهور الغربي. يمكن للنساء في ظل حكم هيئة تحرير الشام الذهاب إلى الجامعة، والعمل، وليس عليهن تغطية وجوههن؛ وقد أخبر المسيحيون في إدلب مؤلفي المقال أن السلطات المحلية حسّنت معاملتها للسكان المحليين.
- إنها سورية: ويرمي المؤلفون ضمن المقال بحجتهم الأهم على سورية النصرة! إنّ مؤسسها سوري هو «أبو محمد الجولاني» وقد طردت جهادييها غير السوريين، وهو أمر يستحق الإشادة به رغم كل الفظائع التي ارتكبتها...
- لا تشكل تهديداً دولياً: في تكرار لما سبق أن قاله جيمس جيفري عندما كان على رأس مهمته التخريبية، يقوم مركز الأزمات بتبييض فاضح للجولاني بإظهار خلافاته مع داعش وزعيمها السابق البغدادي وآخرين مثل الظواهري، برفضه تنفيذ هجمات في اسطنبول أو بشكل عام شن هجمات خارج سوريا؛ وبناءً على ذلك، يرى المؤلفون بأن هذا "يساعد في تفسير سبب استهداف غارات الطائرات دون طيار [الأمريكية] في إدلب عادةً الجهاديين العاملين خارج هيئة تحرير الشام وليس الجماعة نفسها".
- تستغلها روسيا: يحاول المؤلفون القول بأن روسيا، العدو الأكبر للولايات المتحدة والغرب، تستفيد من تصنيف هيئة تحرير الشام كتنظيم إرهابي لتبرير الهجمات على إدلب.
هذه هي التبريرات الرئيسية المستخدمة لاقتراح ضرورة وجود نهج أمريكي جديد في سورية والمنطقة، على الأقل فيما يتعلق بالجماعات "المُصنَّفة" إرهابية، "والتي تُظهر دلائل استعدادها وقدرتها على التخلي عن التكتيكات والمواقف التي من أجلها تم تصنيفها كذلك".
حوافز!
يجب أن يأخذ النهج في الاعتبار، وفقاً للمؤلفين، الرغبة في تقليل "الاعتماد على الوسائل العسكرية في المقام الأول" (وهي قضية لها صدىً إيجابياً بين الأمريكيين) وضرورة إنشاء "مسارات مشروطة... للخروج من التصنيف "الإرهابي". وقد يتطلب ذلك، وفقاً للمؤلفين أيضاً:
- تحديد معايير من دول الناتو لما يجب أن تفعله هيئة تحرير الشام للتوقف عن وصفها بأنها "إرهابية".
- تقديم حوافز لتشجيع هيئة تحرير الشام على تلبية هذه المعايير على أساس مستمر، مثل زيادة دعم الاستقرار المشروط مقابل وقف حملة القمع ضد النقاد المدنيين، وتوسيع مساحة العمل لمنظمات المجتمع المدني المدعومة من الغرب، وإظهار الالتزام بالتعددية السياسية والدينية.
- بمجرد الاتفاق على ذلك من قبل الولايات المتحدة وتركيا والشركاء الأوروبيين، ينبغي التواصل مع روسيا لمعالجة مخاوفها بشأن الهجمات من إدلب على قاعدتها العسكرية والمناطق التي يسيطر عليها النظام.
وبالتالي، من الواضح أنه لا توجد نية أو حتى رغبة في القضاء فعلياً على الإرهاب أو الجماعات الإرهابية، أو حتى معالجة الأسباب الجذرية لظهورها؛ ولكن بدلاً من ذلك هنالك رغبة عارمة في إبقائهم على قيد الحياة وتحت السيطرة.
الأكثر إثارة للقلق، هو الاقتراح الصارخ باستخدام النصرة كوسيلة ضغط في الحرب للتمسك بعرش النظام الدولي أحادي القطب، وهو ما يمكن فهمه من تحذيرات جيفري التي أطلقها في مقابلة أجريت معه مؤخراً، وعبّر فيها عن قلقه الشديد من أنّ روسيا تلعب دوراً في الشرق الأوسط لم تلعبه منذ أكثر من 50 عاماً...
يستنتج المؤلفان أن «الفوائد المحتملة من مثل هذا النهج (أي رفع النصرة من قوائم الإرهاب) تفوق العيوب، والمخاطر ضئيلة»، لا سيما أن هذا من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة وأوروبا النفوذ في منطقة شمال غرب سورية. بالإضافة إلى ذلك، وبكل وقاحة، يقترحون أن تكون إدلب مكاناً لاختبار هذا «النهج الجديد في التعامل مع الجماعات الإرهابية»، وبالتالي يقترحون بشكل صارخ استخدام إدلب مع ملايين السوريين الذين يعيشون هناك كحقل تجارب للولايات المتحدة.
السياسة ذاتها
بناءً على ما سبق، من الواضح أن جهود صنع السياسات لم تتغير، ومن المتوقع أن نرى زيادة في المقترحات والأفكار مثل تلك التي قدمتها المقالة التي نناقشها هنا لتبني سياسة أمريكية تهدف في النهاية إلى تحقيق الأهداف التالية على الأقل:
- محاولة ترسيخ عزلة الشمال الغربي وتكريس حالة تقسيم الأمر الواقع في سورية إلى ثلاثة أجزاء على الأقل من خلال الاعتراف بالحكومة هناك ودعمها بالإضافة إلى المجموعات والشخصيات السورية الأخرى المستفيدة من الأزمة والتي تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ عليها.
- ربما يكون بين الدوافع الأساسية للدفع نحو «نهج جديد» في التعامل مع النصرة، هو السيناريو المحتمل للعمل على انتخابات موازية هذا العام، بحيث يجري تعميق تقسيم الأمر الواقع الموجود أصلاً... ولكي تتم انتخابات من هذا النوع في الشمال الغربي، لا بد من القفز فوق بعض «الشكليات التي لا قيمة لها» مثل أنّ القسم الأكبر من المنطقة المعنية خاضع لتنظيم إرهابي!
- تقويض ما حققه مسار أستانا، خاصة روسيا وتركيا، في العملية السياسية وفي الشمال الغربي. إذ على الرغم من كل المحاولات حتى الآن، لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من إحداث أضرار كبرى بالمسار، وبالتالي تسعى لخلق انقسام عميق بين روسيا وتركيا كتحالف إقليمي رئيسي يشكل بداءةً لمنظومة إقليمية-دولية جديدة.
- الحفاظ على حالة الحرب والاستنزاف التي تؤدي إلى مزيد من التأخير في الوصول إلى الشروط اللازمة للمضي قدماً في الحل السياسي من خلال التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، حيث سيكون ذلك نجاحاً واضحاً للجهود التي تعكس توازناً دولياً جديداً للقوى، حيث يكون للولايات المتحدة دور ضئيل في المسألة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1004