يكاد يستحيل الحديث عن مسألة العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على سورية دون الانطلاق من مغالطة أساسية غالباً ما يجري العمل على حشرنا بها، وهي الثنائية المغلوطة التي تقول: إن كنتَ معارضاً للنظام بحق فعليك أن تؤيد العقوبات المفروضة «عليه»، أما إن جاهرت بموقفك الرافض لها، فهذا يعني أنك مؤيدٌ له. وبهذا الشكل، مطلوب منك أن تتعامى عن كل الأهداف بعيدة المدى التي يتوخاها المعاقِبون، وعن الأرباح الخيالية التي يجنيها «المعاقَبون» بالاستفادة من العقوبات ذاتها.
حلب عاصمة الاقتصاد السوري، هكذا كانت تعرف، وعلى ما يبدو أنها ما زالت، ولكنّها بطرق أخرى هذه المدينة المنكوبة والغنية، حتى بأزماتها، بلا طاقة اليوم. عانت حلب بشكل خاص من أزمات كهرباء ومياه حادة خلال سنوات الأزمة العشر، دون وجود حلول جدية أو مساعي لحلول جدية، بل على العكس أصبحت حلب مركزاً لتجربة (بدائل السوق) وتحديداً فيما يخصّ الكهرباء، إذ ظهرت المولدات ومنها نظام الأمبير مبكراً، وما كان يعدّ حلاً مؤقتاً لحين إخراج المدينة من ظلامٍ دامَ أكثر من عامين أصبحَ أمراً واقعاً، أفرغَ جيوبَ المواطنين. ليكون واحداً من معالم انحدار حال المدينة على لسان قاطنيها بلهجةٍ ساخرة ممزوجة بالكثير من الألم «صرنا متل العصر الحجري بس ناقصنا ديناصورات».
هنالك ظاهرة ملفتة في الإحصائيات السورية في السنوات الأخيرة، وهي: زيادة كبيرة في نسبة الاستثمار من الناتج... أي أن جزءاً أكبر من الدخل المنتج سنوياً، يذهب للاستثمار المحلي. بينما نسبة أقل تذهب للاستهلاك، سواء الاستهلاك الخاص الذي يشكّل استهلاك الأسر معظمه، أو الاستهلاك العام الذي تنفقه الحكومية.
تكثر التصريحات حول توليد الطاقة الشمسية في ظل أزمة الكهرباء الخانقة، حيث لا يتم تأمين 25% من الحاجة اليومية للسوريين في منازلهم، بينما مساحات كاملة في البلاد لا يصلها التيار كلياً أو جزئياً! وسط التردّي الكهربائي المتصاعد، فإنّ الحديث المكرور حول الطاقة الشمسية ربما يعكس جوانب أخرى، استثمارية وضيقة.
لنعرف حجم الأزمة السورية، يكفي أن نعرف الحدّ الأدنى للأجر، لندرك بذلك حجم الجريمة المقرّة بالقوانين وبالشرعية وبالتوافق. مع المرسوم الجديد رقم: .... أوصلت السلطات السورية الحد الأدنى للأجر إلى حدود أقل من 72 ألف ليرة، أي: 24 دولاراً بأفضل الأحوال. والتسعير بالدولار هو التسعير الفعلي اليوم، لأن الدولار هو محور نشاط السوق السورية بأمراء حربها، ومشرعيها، وواضعي أسعارها. ويكفي أن تكون: 70% من الغذاء المنتج محلياً مرتبط بالدولار، لنعرف أن الأجور والأرباح والحكم يدين بالدولار.
رفعت الحكومة السورية أسعار الأساسيات مجدداً ودفعة واحد: الخبز 100%، المازوت 277%، مع زيادات ستتلاحق في المواد التي لا تزال الدولة تديرها، وكان أولها: الأعلاف، ورفع تعرفة النقل، ولن تكون آخرها. وهذه المرّة ترافق الرفع مع زيادة الأجور بنسبة: 50% ونصل إلى حدود 24 دولار حد أدنى! وذلك بعد أن تمّ تجميد الزيادات منذ نهاية 2019 رغم تضاعف مستويات تكاليف المعيشة أكثر من مرتين ونصف منذ ذلك الرفع وحتى اليوم.
الطاقة والخبز، ربما لا يوجد ما يكثف الأسس المادية الاقتصادية لأي بناء اجتماعي أكثر من هذين المكوّنين... الخبز الكافي للبقاء، والطاقة اللازمة للإقلاع والعمل. إنّ توفّر هذين المكونين هو الحد اللازم وغير الكافي لضمان الأمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وعندما تكون البنية الاقتصادية السياسية (متساهلة) مع أزمات الخبز والطاقة فإنها عملياً لا تبحث عن أسس البقاء أو الإقلاع للأمام، وهي غير مبالية بالسقوط في الهاوية.
رفعت الحكومة أسعار الخبز والدواء، ورفعت تسعيرة المستوردات: الزيوت، وعلف الدواجن، والحليب المجفف، والسكر... إنّ هذا الأمر متوقع وسيستمر، فالحكومة تدير شؤون الأقوى: المستوردين باعتبارهم مجالاً حيوياً لقوى النفوذ والتطفل، والصناعين بمستوى أقل، حيث لا يزال لديهم بعض الوزن، ولكن خارح حساباتها أكثر من 15 مليون ممن لا حول لهم ولا قوة. فبالنهاية الحكومة تدير لصالح الحكم، والحكم لا يرى المجتمع إلا بمقدار ما يملك من مال وقوّة.
نشر عدد من صناعيي وتجار مدينة حلب إعلانات عن إغلاق مؤسساتهم ومصانعهم، ونسبوا السبب في ذلك إلى الضرائب الضخمة التي طالبتهم بها مؤخراً وزارة المالية، وسط مناخ بات فيه الخيار هو بين التطفيش أو الخضوع لاقتطاعات كبرى وغير مسبوقة...