ثلاثة أرباع الدعم الحكومي تم شفطه خلال عشر سنوات!
رغم سلسلة الاعتراضات والرفض الشعبي التي قوبل بها قرار الحكومة السورية برفع الدعم عن شرائح من الشعب السوري، أصرّ بعض وجوهها على محاولة «تبرير» القرار بطرقٍ عدّة، كان آخرها «تمنين» السوريين بكتلة الدعم المعلن في الموازنة العامة للدولة لعام 2022، والتي تبلغ ما يقارب 6 ترليون ليرة سورية، وبطريقةٍ توحي بشيئين: أولهما أن هذا الرقم المعلن سيتم إنفاقه فعلياً على الدعم، وثانيهما أن الدعم الحكومي قد ازداد بالنظر إلى القفزات المعلن عنها في أرقام الدعم لهذا العام عن العام الفائت، حيث يزيد رقم الدعم لعام 2022 بمقدار 63% عن نظيره في عام 2021 حينما خصصت الحكومة 3.5 ترليون ليرة سورية للدعم الاجتماعي.
وكرر المعنيون في الحكومة على مسامع الناس من جديد أسطوانة الأسباب المبررة لعملية رفع الدعم الجارية، معتبرين أن الهدف من العملية ليس «رفع الدعم» عن فئة وإبقائه لفئة أخرى، بل «الهدف هو اقتصادي واجتماعي ووطني بحت وسينعكس إيجاباً على المجتمع رغم ما يحمله من مصاعب»، وطبعاً لا ضرورة للتذكير هنا أن «الانعكاس الإيجابي» الذي تتحدث عنه الحكومة كانت قد كشفت عنه لدى حديثها عن أن عملية رفع الدعم الحالية سوف تتيح لها ما يقارب ترليون ليرة سورية، ستحاول «تخفيف عجز الموازنة بجزء من هذا المبلغ، وإعادة ضخ جزء منه للإنتاج وللأسر الأكثر احتياجاً».
ما يعني أن الحكومة - إذا قررنا أن نحسن النية ونعتبر أنها صادقة بتوجهها نحو تخفيف العجز - فإنها قررت فعل ذلك على حساب الناس الذين لا يتحملون وزر السياسات الحكومية التي أودت بالدولة إلى ما نراه الآن من شح في الإيرادات وتصفية لقطاعات الإنتاج الوطني الحقيقي وانهيار في قيمة الليرة، فكيف الحال والجميع متيقن - وبات يصرح بذلك جهاراً نهاراً- بأن ما يجري الآن هو حلقة في مسيرة إلغاء الدعم التي بدأت نغمتها تتعالى في البلاد منذ ما قبل انفجار الأزمة في عام 2011.
اللعب على الخطوط الحمراء
من المفارقات التي أثارت التندر خلال الأسبوع الماضي، التصريحات التي نقلتها إحدى الصحف المحلية عن رئيس الحكومة، والتي أكد خلالها تغيير طريقة تعاطي الحكومة مع فكرة أن «الخبز خط أحمر»، حيث لم يعد خطاً أحمراً بمفهوم سعر ربطة الخبز، بل بمفهوم استمرار دعم الزراعة، وتأمين القمح والدقيق إلى الأفران بحيث تبقى هذه المادة متوفرة وبسعر مقبول للمواطن الذي يستحق أن يحصل عليها بهذا السعر! ومرة أخرى، تعيد الحكومة التذكير بالعقوبات الاقتصادية الجائرة على سورية وبأن خزان القمح السوري في المنطقة الشرقية يحتله الأمريكيون.
لن نقف طويلاً عند هذه النقطة فقد حظيت بالكثير من الردود على وسائل التواصل الاجتماعي، بل سنكتفي بالتساؤل: ماذا فعلت الحكومة - على امتداد سنوات الأزمة- كي تؤمّن القمح بالأسعار المناسبة؟ ثم ماذا عن عشرات مليارات الليرات السورية التي يتم جنيها سنوياً كأرباح تذهب لجيوب مستوردي القمح في البلاد؟ أليست أرباح هؤلاء الوسطاء الذين راكموا ثروات هائلة جراء العمولات المجحفة التي يتقاضونها أجدى بأن تكون مصدراً لسد عجوزات الموازنة؟ ثم أي منطق في أن يستورد السوريون قمحهم بأسعار أعلى من الأسعار العالمية (تصل الزيادات أحياناً إلى أكثر من 40% من السعر العالمي)؟
الدفاع عن حيتان المال
وفي حركة استباقية لمن يريد أن ينتقد الحكومة جراء محاباتها لأصحاب الأرباح الكبرى، استغربت الحكومة الحديث الدائر عن حيتان المال وما يمكن أن يقدموه من أموال للخزينة العامة للدولة بدلاً من رفع الدعم عن الناس، متسائلة: «من قال إنهم لا يقدمون أو لا يسددون»؟!
وفي محاولة البرهنة على أن الحكومة تقوم بدورها ضريبياً، أحال رئيس الوزراء السائلين إلى ما تقوم به الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية والقضاء الإداري، حيث استردت ضرائب متهربة قدَّرها بمئات المليارات. وكذلك ما تقوم به وزارة المالية من تدقيقات وإصلاحات ضريبية مثل قانون البيوع العقارية.
وهنا لا بد من التذكير بنقطتين: الأولى، أن المطالبين بالإصلاح الضريبي لا يقصدون بذلك صغار التجار أو المتوسطين منهم فحسب، بل وكذلك أثرياء الحرب، القطط السمان الذين يراكمون الثروات الهائلة ولا يعدمون سبل التهرب الضريبي، ومواضع الربح العديدة المستثناة من الضريبة. والثانية، هي أن أرقام الضرائب في سورية تتحدث عن نفسها:
في كل دول العالم، هنالك مؤشر اقتصادي مهم هو حصة إيرادات الضرائب والرسوم من الناتج المحلي الإجمالي (يُعتمد هذا المؤشر لمعرفة الحصة التي تعود إلى خزينة الدولة من الناتج المحلي). ووفقاً لتقديرات منظمة دول مجموعة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD فإن الرقم الوسطي لحصة الضرائب والرسوم من الناتج المحلي هي حوالي 34% أي أن ثلث الناتج يجب أن يعود إلى خزينة الدولة. فما هي النسبة في سورية؟ في بعض الموازنات، كانت النسبة أقل من 10% من الناتج المحلي! فعن أي تحصيل ضريبي يجري الحديث؟
العجز والحلول التقليدية
اعتبرت الحكومة أيضاً قرار رفع الدعم «حلاً لا بد منه لمعالجة العجز القائم بالموازنة العامة للدولة، مع عدم القدرة على السير بالحلول الأخرى التقليدية لمعالجة هذا العجز، كاللجوء إلى زيادة وتعزيز الإيرادات العامة من خلال إعادة النظر ببدلات الخدمات وزيادة الضرائب والرسوم».
أولاً: هل هذه هي مواضع زيادة إيرادات الدولة فحسب حقاً؟ لماذا لا تنبس الحكومة ببنت شفة عن الصناعة والزراعة ومجمل جوانب الإنتاج الحقيقي بوصفه مدخلاً أساسياً لرفع إيرادات الدولة؟ ولماذا لا تقدم لنا حقائق عن دورها الفعلي في هذا الصدد؟
ثانياً: إذا كانت الحكومة تعتبر أنها لم تستطع خلال الفترة الماضية أن تعيد النظر ببدلات الخدمات وزيادة الضرائب والرسوم، فما الذي كان يجري مؤخراً؟ ألم تكن زيادة الجباية ورفع/ «تعديل» الرسوم هي السمة العامة للأداء الحكومي مؤخراً؟
ثالثاً: لماذا يتم التعاطي مع عجز الموازنة وكأنه معطى جديداً ناتجاً عن ظروف الأزمة؟ ألم تموّل الحكومة السورية نفقاتها بالعجز منذ عام 2006 على أقل تقدير؟ ثم ما الذي يؤكد أن الحكومة تنفق فعلياً ما تعلن عنه في موازناتها أم لا في ظل عدم إصدار قطع الموازنات منذ 2013؟ ألا يعتبر رقم العجز الكبير المعلن عنه - والذي لا يمكن التأكد من صحته أصلاً- شماعة للحكومة من أجل تخفيض الدعم الاجتماعي وصولاً نحو إلغائه تماماً؟ إن نظرة على رقم الدعم الاجتماعي خلال السنوات العشر الماضية كافية للإجابة عن هذا التساؤل.
دعم 2022 ربع الدعم في 2012
كما أسلفنا، فخلف الحديث الحكومي المتواصل عن «الحفاظ على الدعم» و»توجيهه نحو مستحقيه» هنالك تقليص متواصل لهذا الدعم وسحب له بالتدريج. فإذا أردنا أن نتغاضى عن أن أرقام الدعم المعلن عنها حكومياً مشكوك بها ومضخمة بالأصل، نرى أن هذه الأرقام ذاتها كانت تتجه على مدار السنوات نحو التقلص إذا قارناها مع سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء، لنجد أن كتلة الدعم المعلن عنها في عام 2022 هي أقل من 28% من كتلة الدعم ذاتها في عام 2012. ما يعني أن قرابة ثلاثة أرباع رقم الدعم المعلن حكومياً قد تم شفطه خلال عشر سنوات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1057