تطورات أوكرانيا.. ذريعة جديدة وفرصة للنهب
طيلة سنوات الحرب والأزمة لم يعدم كبار حيتان أصحاب الأرباح الذرائع لتبرير نهبهم وفسادهم واستغلالهم، وصولاً إلى مستويات أعلى وأعلى من التحكم بالواقع الاقتصادي، وبالعمليات الاقتصادية والمالية الجارية في البلاد، مستندين في ذلك إلى جملة السياسات الليبرالية المطبقة حكومياً، المحابية لهم والمدافعة عن مصالحهم على طول الخط، والتي وصلت بنتائجها العملية إلى مرحلة التوحّش على المستوى الاقتصادي والمعيشي والخدمي، على حساب أصحاب الأجور من الغالبية المفقرة طبعاً، وعلى حساب الاقتصاد الوطني والمصلحة الوطنية بالنتيجة.
وقد أتيحت أمام هؤلاء مؤخراً فرصة وذريعة جديدة، بسبب التطورات المستجدة في ملف الأزمة الأوكرانية وتداعياتها المتوقعة، كي يزيدوا من معدلات نهبهم واستغلالهم بغاية الحصول على هوامش ربح إضافية، وكي يرفعوا من مستويات تحكّمهم، وخاصة على مستوى الاحتياجات الضرورية لعموم المواطنين.
وكذلك أتيحت الفرصة أمام الحكومة لتكريس نهجها المتمثل بتقليص دور الدولة وتغييبه، وبتخفيض الإنفاق العام، بما في ذلك وخاصة ما يتعلق بعنوان «توجيه الدعم لمستحقيه»، وصولاً إلى إنهائه كلياً، وبالسرعة الممكنة.
الإجراءات الحكومية المعلنة
تحت عنوان: «الإجراءات الحكومية لإدارة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في ظل التطورات الأخيرة»، و«استجابة للتطورات الحاصلة في ملف الأزمة الأوكرانية»، عقد مجلس الوزراء جلسة استثنائية مصغرة بتاريخ 24/2/2022.
وقد خلص الاجتماع إلى وضع بنود عمل للتعاطي مع هذا الوضع المستجد لمدة شهرين، واتخاذ ما يلزم حيال تطوراته، وذلك وفق خمسة مستويات، تتلخص بما يلي:
- اتخاذ ما يلزم لإدارة المخازين المتوفرة من المواد الأساسية (القمح، السكر، الزيت، الرز ومادة البطاطا) خلال الشهرين المقبلين ومتطلبات تعزيزه والتدقيق في مستويات توزيع هذه المواد وترشيدها لضمان استدامة توفرها ودراسة كل الخيارات لتوريدها بمختلف الوسائل.
- وضع قائمة بالتوريدات الأساسية الأكثر ضرورة خلال الشهرين المقبلين والاتفاق على عقود التوريدات ومتابعتها والتشديد على الموردين على استكمال الموَقع منها بأسرع وقت ممكن.
-مراجعة المواد التي يتم تصديرها وتقييد التصدير خلال الشهرين المقبلين للمواد التي يمكن أن تسهم في استقرار السوق كمادة زيت الزيتون والمواد الغذائية المحفوظة وغيرها من المواد وأيضاً إدارة احتياجات السوق من الأدوية.
-دراسة إمكانية تخفيض بعض الأسعار الاسترشادية لبعض المواد الأساسية بهدف تخفيض أسعار هذه المواد في السوق المحلية.
- وضع خطة لتوزيع كافة المشتقات النفطية خلال الشهرين المقبلين بما يضمن الانتظام في التوزيع وترشيد هذه العملية للقطاعات الضرورية ووضع خطة لتخفيض الكميات التي يتم تزويد السوق بها تدريجياً ودراسة واقع التوريدات والتأكيد على أهمية سرعة معالجة موضوع استبعاد الشرائح من الدعم وفق ما تم إقراره للاستفادة من منعكساته الإيجابية على مستوى الوفر في استهلاك المواد المدعومة.
-تشديد الرقابة على سوق الصرف لضمان استقراره خلال الشهرين المقبلين ومتابعة التطورات المتوقعة واتخاذ ما يلزم حيالها.
-الترشيد في تخصيص القطع خلال هذه المدة لتلبية الاحتياجات الأكثر ضرورة ووضع برمجة زمنية ونقدية مناسبة لتمويل عقود القمح كمادة إستراتيجية.
- العمل على ترشيد الإنفاق العام حالياً بحيث يقتصر على الأولويات خلال هذه المدة حرصاً على عدم زيادة التمويل بالعجز.
- التشديد في مراقبة الأسواق وتوحيد الجهود لمراقبتها والتأكد من ضبط الأسعار ومنع أي شكل من مظاهر الاحتكار والتلاعب باستقرار السوق.
المهماز والذريعة
تبدو الملامح العامة النظرية للتوجهات الحكومية أعلاه وكأنها ذات مضمون إيجابي، أو هكذا تظن الحكومة وتعمل على الترويج له، لكن ماذا عن الجانب العملي والتنفيذي منها، في ظل استمرار العمل بنفس السياسات الطبقية الظالمة، وفي ظل الاستمرار بالتضحية بدور الدولة التحكمي بالواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي؟!
فالترجمة العملية للتوجهات أعلاه يمكن تبويبها بمحورين:
الأول هو: تكريس نهج السياسات الطبقية الظالمة المتبعة.
والثاني هو: تكريس التحكم بالواقع الاقتصادي، والعمليات الاقتصادية والمالية، بأيدي القلة الناهبة والفاسدة والمستغلة بشكل أكثر وأعمق وأوسع مما سبق.
فتطورات الأزمة الأوكرانية، ومع الاعتراف بتداعياتها وآثارها المتوقعة، وعدم التقليل منها طبعاً، ما هي إلا ذريعة جديدة لتُعلق عليها موبقات السياسات الحكومية الطبقية، ولن تكون إلا مبرراً لمزيد من فرص النهب والفساد على أيدي الطغمة المتحكمة بمفاصل وتفاصيل العمل الاقتصادي والمالي، ولمصلحتها.
فحتى الإعلان عن إمكانية تخفيض بعض الأسعار الاسترشادية لبعض المواد الأساسية، أو إجراءات تقييد التصدير، كما ورد أعلاه، لن يصب إلا بمصلحة هذه الطغمة، مع عدم ضمان تخفيض الأسعار في السوق المحلية طبعاً، والتجارب الشبيهة السابقة خير دليل على ذلك.
فخلال الأيام القلية الماضية أصاب السوق حالة إضافية من الغليان السعري على كافة السلع والمواد والخدمات، والقادم يبدو أسوأ، وخاصة على ضوء البدء بتنفيذ التوجهات الحكومية أعلاه!
النتائج المتوقعة لا تبشر بالخير!
التوجه الرسمي وفقاً للتفاصيل أعلاه، واستناداً للخبرات العملية المتراكمة من نتائج جملة السياسات المعمول بها طيلة العقود الماضية وحتى الآن، وخاصة على مستوى استمرار تراجع دور الدولة التحكمي، بل والتخلي عن الكثير من المهام والواجبات المفترضة بعهدتها لمصلحة قلة من الحيتان، يعني بالترجمة العملية، على المستوى التنفيذي خلال الشهرين القادمين، أننا مقبلون على ما يلي:
تبرير مسبق ومستمر، مع ضوء أخضر، لرفع أسعار المواد والسلع الأساسية وغير الأساسية في الأسواق، من قبل الجهات والقطاعات الرسمية والخاصة، بالإضافة إلى أسعار الخدمات المقدمة من هذه القطاعات.
مزيد من التخفيض على كمية المخصصات الموزعة من المواد الأساسية المدعومة (خبز- سكر- رز- مشتقات نفطية)، وزيادة الهامش الزمني بين موعد توزيع وآخر لها، أي تخفيض إضافي على الدعم.
المضي قدماً نحو توسيع دائرة الشرائح المستبعدة من الدعم، وصولاً إلى إنهائه كلياً، وبسرعة.
جرعة جديدة من تخفيض الإنفاق العام، تحت عنوان الترشيد والأولويات، والخشية المشروعة من أن يطال ذلك قطاعات (الكهرباء- المياه- الطبابة- التعليم.. وغيرها).
زيادة في تراجع الإنتاج (الصناعي والزراعي والحرفي)، كنتيجة متوقعة لعنوان «ترشيد توزيع المشتقات النفطية على القطاعات الضرورية» بالحد الأدنى، باعتبار أن الواقع العملي يشير إلى أن القطاع الإنتاجي خارج أولويات السياسات الحكومية، وما تمثله من مصالح.
مزيد من التحكم بتوريدات وسلاسل تسويق وتوزيع وبيع المواد والسلع، الأساسية وغير الأساسية، (كمّاً ونوعاً ومصدراً وسعراً)، على أيدي ولمصلحة كبار أصحاب الأرباح.
تعزيز إجراءات تقييد حركة السيولة النقدية، التي لم تصب بالتجربة العملية خلال السنين القريبة الماضية وحتى الآن، إلا بمصلحة كبار حيتان الثروة والمتحكمين بها.
زيادة فرص الاستحواذ على القطع، وخاصة المخصص لعمليات استيراد المواد الأساسية، من قبل ولمصلحة كبار الحيتان، مع المزيد من مركزته بأيديهم.
مزيد من التدهور على مستوى القيمة الشرائية لليرة بالنتيجة.
تسجيل المزيد من التراجع على المستوى الاقتصادي العام.
مزيد من التردي على المستوى المعيشي والخدمي، أي مزيد من الإفقار العام بالمحصلة.
فالأزمة الأوكرانية، وفقاً للسيناريو الرسمي المعلن أعلاه، أصبحت ذريعة مضافة إلى ذرائع الحرب والأزمة والحصار والعقوبات، لشن المزيد من الهجوم على حقوق ومصالح الغالبية المفقرة، وعلى حساب حاجاتهم وضروراتهم الحياتية والمعيشية والخدمية، على أيدي الحكومة وبمباركتها، ولمصلحة حيتان الثروة والفساد، مع النتائج السلبية لكل ذلك على مستوى المصلحة الوطنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1059