برد دمشق... حين تصبح التدفئة امتيازاً لا حقاً
مع أولى نوبات البرد في دمشق، لا يبدأ الشتاء من النوافذ ولا من الغيوم، بل من الأسواق. من واجهات محال مدافئ المازوت، حيث ارتفعت الأسعار بوتيرة صادمة، وكأن البرد نفسه أصبح سلعة تُتداول بلا رحمة.
قبل شهر فقط، كانت المدفأة الصغيرة تُباع بحدود 300 ألف ليرة، أما اليوم فقد قفزت إلى 650 ألفاً. الأحجام الأكبر والنوعيات الأفضل تتراوح بين 900 ألف ومليون ونصف، أرقام لا تشبه دخل أغلب السوريين بشيء. ومع أن أسعار المازوت نفسها مرتفعة، إلا أن التدفئة به تبقى- مقارنة بالكهرباء والغاز– الأكثر جدوى وأقل انقطاعاً، ما جعل الطلب يتجه نحوه رغم الكلفة الثقيلة.
في المقابل، تراجع الطلب على مدافئ الكهرباء والغاز بعد الرفع الكبير للتسعيرة، إذ تحولت فاتورة الكهرباء إلى كابوس، وأسطوانة الغاز إلى عبء مؤجل، لا يُشغَّل إلا للضرورة القصوى.
النتيجة؟ خيارات التدفئة تضيق، والأسعار تتسع، والفقراء يُدفَعون إلى الزاوية.
سوق بلا رقابة... وأسعار بلا خجل
سوق مدافئ المازوت ومتمماتها يبدو خارج أي رقابة حقيقية. الفوارق السعرية بين محل وآخر كبيرة، وأحياناً صادمة، وتختلف باختلاف الحي والمكان و«مزاج» التاجر. المواصفات غير واضحة، الجودة متقلبة، ولا معيار يحكم إلا القدرة على الدفع. من يملك المال يختار، ومن لا يملكه يُنصَح بالصبر... أو بالتحمّل.
وهنا، لا يمكن تجاهل تصاعد معدلات الاستغلال. فالبرد لا ينتظر، والأطفال لا يحتملون، والمفقرون لا يملكون ترف المقاطعة أو الانتظار. فيُدفَعون للشراء بأسعار يعلم الجميع أنها غير عادلة، لكن لا أحد يوقفها.
حين يفقد المفقرون الأمل
الأقسى في هذا المشهد ليس الأرقام، بل الوجوه. أطفال ينامون بملابسهم الثقيلة، أيادٍ صغيرة متشققة من الصقيع، وبيوت يغلّفها البرد أكثر مما تغلّفها الجدران. عائلات فقدت أي أمل بالحصول على وسيلة تدفئة حقيقية مع بدء فصل الشتاء، وتتعامل مع البرد كقدر لا كأزمة يمكن حلها.
الشتاء هنا لا يعني المطر فقط، بل يعني الإذلال اليومي... حساب ساعات تشغيل المدفأة، إطفاؤها قبل أن ينام الأطفال، والقلق من مرض لا يُعالَج لأن التدفئة كانت أول ما تم الاستغناء عنه.
غضب مشروع... ومسؤولية غائبة
الغضب اليوم مشروع، ليس على جشع بعض التجار فقط، بل على السياسات الحكومية التي رفعت أسعار الكهرباء والمازوت والغاز دفعة واحدة، دون توفير بدائل حقيقية أو حماية للفئات الأضعف. حين تُرفع الأسعار بلا ضبط للسوق ولا دعم للفقراء، يصبح البرد عقوبة جماعية، لا ظرفاً طبيعياً.
التدفئة ليست كماليات. هي حق إنساني أساسي، خصوصاً للأطفال وكبار السن. وأي دولة لا تضع هذا الحق في صلب سياساتها، تترك مواطنيها عراة أمام الشتاء، مهما كثرت التصريحات.
في دمشق، البرد هذا العام ليس أشد من الأعوام السابقة، لكن القدرة على مواجهته هي التي انهارت.
فبين مدفأة يتضاعف سعرها، وسوق بلا رقابة، وحكومة ترفع التسعيرة، يبقى المفقرون وحدهم في مواجهة الصقيع... بلا نار، ولا عدالة، ولا أمل قريب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1258