توقعات للعام الجديد: النظام ومحاولة استيعاب اللحظة

توقعات للعام الجديد: النظام ومحاولة استيعاب اللحظة

من تداعيات التوازن العالمي والكبح النسبي للحرب والإبادة والتفكيك وإغراق غالبية شعوب العالم بواقع من الصراع على البقاء، هو تلك المساحة من حاجة للنظام العالمي لممارسة الهيمنة الفكرية التي تمنع ذلك القسم الذي لا زال يملك مساحات من التفكير والفعل من إمساك المبادرة، عبر حرفها والتشويش عليها وبالتالي شلّها. ومن أدوات هذا الاتجاه الذي يظهر بمظهر المحايد والداعية هو الطفل المدلل وقوة احتياط آلة الدعاية والهيمنة ورأس حربتها الأكثر «تقدمية» الفيلسوف والمفكر والمؤثر «الإسرائيلي» يوفال هراري.

مجدداً، عن العلامات المرعبة للتحول


على الرغم من اختلاف اللغة في توصيف اللحظة التاريخية عالمياً فإن الموقف الماركسي كما الموقف الـ«لا ماركسي» الأكثر تجريداً الذي يحاول الظهور بمظهر «الموضوعية». كلا الموقفين يلتقيان على أننا في لحظة قطع تاريخية من عمر البشرية ككل وليس فقط تحول في ظل الرأسمالية. وبينما يُفهم هذا القطع من الموقع الماركسي على أنه وصول المجتمع الطبقي إلى حدوده التاريخية وبالتالي ضرورة تجاوزه، فإن الموقف الآخر، غير الماركسي والذي يعني ضمنياً عدم الخروج عن إحداثيّات المجتمع الطبقي، وعلى الرغم من اعترافه بهذه الحدود فإنه أولاً يعرّفها دون وضعها في السياق الاقتصادي-السياسي التطوري للمجتمع البشري، أي يفرّغها من مضمونها الثوري الدافع باتجاه تجاوز المجتمع الطبقي. هذا الموقف يعترف بكل التحولات تقريباً وصراحة إلا ربطها وكشف معناها نسبة للمجتمع الطبقي. فهو يعترف بأن علاقة الإنسان بالطبيعة لم يعد ممكناً لها الاستمرار على ما هي عليه، ويعترف بأن دخول التكنولوجيا الذكية تعيد تعريف العلاقات والمؤسسات وعلاقة الإنسان بنفسه وبالمجتمع، وبأن الإنسان لم يعد يجد معنى في الحياة، وبأن الإنسان يعيد حالة اغتراب شاملة يطلق عليها «تقنياً» الاغتراب الزمني، أي عدم القدرة على عيش اللحظة الراهنة مقابل إما الحنين الرومنسي إلى الماضي أو التطلع إلى المستقبل دون القدرة على الإمساك بآلياته يقينياً، وغيرها من العلامات. وهذا الاعتراف من قبل الموقف غير الماركسي ليس إلا دليلاً على اتضاح الجوهر التاريخي للمرحلة، وبالتالي محاولة من قبل قواعد النظام على استيعاب التعاطي معه وحرف احتمالاته المهددة للمجتمع الطبقي.


النموذج الأوضح: يوفال هراري


يشكّل هراري، اسم أشرنا إليه سابقاً، رأس حربة استيعاب هذا الوضوح في المرحلة التاريخية، من خلال التقاط الاتجاه العام الذي لا يمكن وقفه موضوعياً، ومحاولة تعليبه بغير حقيقته. كتب هراري ومقابلاته وندواته حازت مئات الملايين من المبيعات والمتابعات حول العالم، كما ترجمت كتاباته لأكثر من 65 لغة. هراري هذا الذي يظهر على المسرح، كما على التلفاز، وفي المجلات، وعلى صفحته الخاصة، وفي البرامج الحوارية، يملأ الفضاء «الفكري» عالمياً، وهذا بحد ذاته له معنى ضمني حول هامش الحركة والدعم والرعاية الذي يحظى بها هذا «المفكر التجاوزي المستقبلي». وعلى قناة «مستقبل الوجود» التي أطلقها مؤخراً (منذ نحو الشهرين)، له عدة كلمات مسجلة، مع خلفية طبيعية (في محاولة توظيف المعنى الجمالي اليوم للطبيعة إلى جانب التوظيفات لجماليات أخرى من أجل التأثير البصري على الوعي المغترب) لا يقول فيها الكثير الجديد، بل يعيد التأكيد على شكل تنبؤات للعام الجديد، على ما قاله سابقاً من أننا وصلنا اليوم إلى نقطة مفصلية من تاريخ البشرية حيث إن المؤسسات والقيم وأنماط الحياة والممارسات المعروفة لقرون لم تعد صالحة ومطلوب تجاوزها، كون الأزمة التي تصيبها تخلق أزمة معنى للإنسان ولا يقين وجودي، في لحظة شديدة التسارع والتعقيد. ولكن الجديد الذي يعلنه هراري في محاولة للتأثير كما للتعريف هو أن العام القادم، أي 2026، سيشهد أزمة، ليست اقتصادية، بل «عاطفية»، حيث ستتكثف فيها كل الأسئلة حول مستقبل نمط الحياة على الكوكب نتيجة غياب الإجابات حول الأزمات التي نعيشها وخاصة قضية التكنولوجيا والوحدة وغياب المعنى والتسارع الشديد والمسؤولية الفردية. ولكن بالنسبة لهراري، الذي يملأ خطابه بمؤثرات رنانة تطال ما يفكر به المشاهد من أسئلة موضوعية، وهذا ما لا تقوم به بالشكل الكافي أيّ من المؤسسات الصاعدة، مما يجعلها أقل قدرة على مخاطبة العمق الحضاري للحظة التاريخية بهذا التفصيل الملموس للمعاناة الروحية والنفسية المطروحة، بالنسبة لهراري فإن ما نحتاج إليه هو «ثورية نفسية» في كيفية علاقتنا بالعالم. يا لهذا الوضوح غير الثوري كون هراري نفسه يفرغه من مضمونه حين يحيله لا إلى تغيير في كيفية الحكم ولا التشريع ولا أي «تحويل خارجي»، بل انتقال «داخلي» إرادوي في السلوك، أي «ثورة وعي» محض. ولهذا أطلق هراري هذا «الحوار» مع المشاهد على قناته الجديدة التي أطلقها من أجل الوصول إلى قواعد عقلية مشتركة لمواجهة هذا التفكك في المعنى ونمط الحياة والمؤسسات.


مجدداً: في المحاولة ومعناها


إن هراري في كونه رامزاً مكثّفاً للحقل الأيديولوجي والصراع ضمنه، هو تأكيد على الطبيعة النوعية للمرحلة، التي لا يجب في أي لحظة نسيان موقعها في تاريخ البشرية ليس فقط من أجل الإمساك بمدى خطورتها، ولكن أيضاً بمدى غناها وما تحمله من كوامن في تجاوز المجتمع الطبقي. وإن هراري هو تأكيد على رعب قوى الهيمنة من هذا الاحتمال. وهو أيضاً دليل على شدة اليقظة لديها من خلال الاقتراب أقصى ما يمكن من المعنى الضمني للمرحلة ولكن مع تشويه وحرف هذا المعنى. هذا الرعب يظهر كمياً من خلال تواتر حضور هراري (هناك فيديو على هذه القناة الجديدة له كلّ يوم)، وثانياً من خلال مضمون كلماته التي يدق فيها ناقوس الخطر عن أننا «لا نملك ترف الوقت وعلينا التصرف سريعاً قبل فوات الأوان». هراري هذا، الذي هو «إسرائيلي» أساساً، ويعترف بما يسمى «حق» الكيان الصهيوني «بالدفاع عن النفس»، وباستهزائه بالدول «الديكتاتورية» كروسيا وكوريا الشمالية والصين، وبنقده للديمقراطية (وبأزمتها اليوم) لكن مع الاعتراف بكونها نظام الغرب الليبرالي الذي يشهد صعوبات نتيجة تحولات «خارجية»، لا في كونها أساساً نظام هيمنة ناعم، وفي تغييبه بالكامل للتحليل الاقتصادي-السياسي، بل في انتقاله من موضوع لآخر في محاولة لأسر المشاهد من خلال خطاب ذي ثقل نفسي شديد، لغاية التأثير والجذب والتعمية تجاه جمهور شديد العطش للإجابات، ولمستوى كهذا من التحليل، إن هراري هذا لا يعدو كونه ظاهرة من ظواهر الأزمة العميقة للمجتمع الطبقي، الذي وإن تقدمت فيه قوة تحمل مشروعاً حضارياً على مستوى اللحظة نفسها فإنها قادرة على صنع فارق تاريخي. هذه القوة النقيضة تتقدّم ولكن ببطء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1258