الأجور في بداية 2023.. سدس ما كانت عليه في عام 2015 فقط!
لم يعد هنالك في سورية من ينكر اليوم أن الأجور التي يمنحها جهاز الدولة لم تعد قادرة على تغطية شيء فعلياً من ضرورات الحياة، حيث يرزح جميع العاملين في القطاع العام (البالغ عددهم 1,595,475، من أصل 2,797,277 عامل في سورية، وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء المنشورة في عام 2022) تحت وطأة الفجوة الضخمة الأخذة بالتزايد بين ضرورات الحياة والحد الأدنى للأجور الذي لا يتعدى حدود 92,970 ليرة سورية.
كان الحدّ الأدنى للأجور في سورية «يرتفع» بشكلٍ دوري، وعلى نحو خاص بعد انفجار الأزمة في البلاد عام 2011، لكن هذا الارتفاع الشكلي كان يحمل في طياته تراجعاً فعلياً في القيمة الحقيقية للأجر الذي يحصل عليه العامل السوري لقاء بيع قوة عمله. لهذا، سنسلط الضوء في هذه المادة على الواقع الحقيقي للأجور في البلاد في مطلع عام 2023، وعلى التراجع الكبير الذي أصابه خلال السنوات السابقة، بالاعتماد على قياس ما يشتريه الحد الأدنى للأجور فعلياً من سلع في السوق.
الأجر بالدولار:
من 94.2 إلى 15.8
كما أشرنا في موادٍ سابقة، فإنه لقياس قيمة الحد الأدنى للأجر، يمكننا الاعتماد بعض الشيء على بيانات السنوات 2015 و2019 و2023 من أجل إلقاء نظرة على التقلبات التي أصابت القيمة الفعلية للحد الأدنى للأجور كل أربع سنوات.
بناءً عليه، نجد أن الحد الأدنى الرسمي للأجور قد ارتفع - نظرياً- من 13,670 ليرة سورية في عام 2015 إلى 16,750 ليرة في عام 2019، ليعود ويرتفع مرة جديدة إلى 92,970 ليرة يتقاضاها العامل اليوم في مطلع 2023، أي أن الحد الأدنى للأجور في البلاد «تضاعف» -نظرياً أيضاً- بحوالي 6 مرات منذ عام 2019.
لكن هل ارتفع الأجر فعلياً؟ بالتأكيد لا، ولا تحتاج البرهنة على ذلك أكثر من تقويم «الارتفاعات» التي شهدها الأجر بالدولار في السوق السوداء (بوصفه المعيار الفعلي الذي تتحدد بالتبعية له أسعار جميع السلع في السوق تقريباً). وبناءً على هذا المعيار، نجد أن الحد الأدنى للأجور انخفض بشكل فعلي من 94.2 دولار في عام 2015، إلى 38 دولار في عام 2019، أما اليوم فإنه (وبعد سلسلة التراجعات التي شهدها سعر الدولار في السوق السوداء) فإنه يتأرجح عند حدود 15.8 دولار.
لهذا يتبين أن الارتفاع الشكلي الذي حققه الحد الأدنى للأجور بالليرة السورية، يقابله انخفاضاً حقيقياً في قيمة هذا الأجر بالدولار بما يزيد على 83.2% منذ عام 2015، ما يعني أن العامل السوري يتقاضى سوى سُدس ما كان يتقاضاه في عام 2015.
معيار الذهب:
من 2.6 غرام إلى 0.2 فقط!
واحد من المعايير الأخرى التي يمكن استخدامها لمقاربة التراجع في القيمة الحقيقية لأجور العمال في سورية هو معيار الذهب، كونه واحد من السلع الأكثر استقراراً والأقل تقلباً من حيث القيمة.
في عام 2015، كانت 13,670 ليرة سورية تستطيع شراء ما يقارب 2.6 غرام ذهب من عيار 21، لكن بعد أربعة أعوام فقط، أصبح الحد الأدنى للأجور البالغ 16,750 ليرة غير قادر على شراء سوى 1.01 غرام ذهب، ليواصل هذا الحد انهياره إلى أن أصبح بالكاد قادراً على شراء 0.2 غرام ذهب في عام 2023. ما يعني أن قيمة الأجر الفعلية وفقاً لهذا المعيار قد انخفضت بما يزيد على 92.3%.
تكاليف المعيشة:
خمسة آلاف بالمئة خلال 8 سنوات!
وواحد من المعايير الإضافية التي يمكن ذكرها للإشارة إلى مقدار التراجع الذي طال قيمة الحد الأدنى للأجور في البلاد هو قياس هذا الحد بنسبة ما يغطيه من تكاليف المعيشة الضرورية للأسرة التي تشمل تكاليف الغذاء بالإضافة إلى تكاليف الحاجات الضرورية الأخرى من نقل واتصالات وتعليم وغيرها..
بأخذ آخر نتيجة لمؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، نرى أن وسطي تكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من 5 أفراد (علماً أن معدّل الإعالة في سورية يصل إلى ما يقارب واحد إلى سبعة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة). ارتفع من 68,160 ليرة سورية في 2015 إلى قرابة 332,000 ليرة في 2019، لتتصاعد على نحو كارثي إلى حوالي 4,012,178 ليرة سورية وفقاً لحسابات بداية عام 2023. ما يعني أن هذه التكاليف ارتفعت بالليرة السورية بحدود 5786% منذ عام 2015!
لكن ما يهمنا هنا هو ما يغطيه الحد الأدنى للأجور من هذه التكاليف: في عام 2015، كان الحد الأدنى للأجور في البلاد قادراً على أن يغطي حوالي 20% من وسطي تكاليف المعيشة. لتهبط هذه النسبة إلى 5% في 2019، ثم إلى حدود 2.3% في 2022. أي أن نسبة التغطية انخفضت بحدود 88.5% أيضاً.
الأجر يجب أن يتحدد بما يؤمن الحاجات الفعلية
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معيار الدولار أثبت أن التراجع في القيمة الحقيقية للحد الأدنى لأجور العمال السوريين قد فاق 83.2%، ومعيار الذهب أثبت أن نسبة التراجع لا تقل عن 92.3%، ومعيار تكاليف المعيشة كشف عن تراجع يصل إلى 88.5%، يمكننا القول إن الحد الأدنى للأجور تراجع من حيث قيمته الفعلية بنسبة 88% وسطياً خلال ثماني سنوات.
هذا كله يدفعنا لتكرار ما نقوله دائماً، وهو أن مهما بلغت ارتفاعات الحد الأدنى للأجور فإنها لن تعني شيئاً إن لم تكن متسقة مع رفع القدرة الشرائية والقيمة الحقيقية لهذا الأجر، إذ يمكن أن يرتفع هذا الحد ويتضاعف مرات عدة شكلياً لكنه يتراجع فعلياً تاركاً الملايين من السوريين نهباً للفقر والجوع وانعدام الأمن الغذائي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1104