التغييرات الهيكلية في سوق الطاقة في 2023
أوديت الحسين أوديت الحسين

التغييرات الهيكلية في سوق الطاقة في 2023

في آخر شهر من عام 2022 توجه الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، ووقع معها اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة، وكان حجر الزاوية في هذا التنسيق هو موارد وأمن الطاقة. قبل أيام من ذلك، أعلن الغرب عن التنفيذ الرسمي لوضع حدّ أقصى للنفط الخام الروسي عند 60 دولاراً للبرميل. وقبل ذلك بشهرين أعلنت أوبك+ في تشرين الأول عن تخفيض الإنتاج للتعويض عن الركود في الطلب، إذا ما نظرنا إلى سوق الطاقة بشكل كلي اليوم، يخطر ببالنا سؤالٌ هام: كيف يمكن للسعي خلف مصادر الطاقة- في ظلّ التوترات العالمية التي نشهدها- أن يدفع التغييرات العالمية الاقتصادية والسياسية قدماً؟

إذا ما عدنا إلى نظام البترودولار الذي أُنشئ في 1974، فقد قام بتحديد التقسيم العالمي للعمل، وآلية استرداد الدولار «repatriation»: الشرق الأوسط يزودّ بالطاقة، واليابان وكوريا وأوروبا تزوّد بالتصنيع، والولايات المتحدة تهيمن على سوق الاستهلاك، تزوّد بالدولار والتكنولوجيا المتقدمة. يقوم بعدها الشرق الأوسط واليابان وكوريا وأوروبا بأخذ الدولارات لشراء ديون الولايات المتحدة، أثناء طلبهم الحماية/ السلام العسكري الأمريكي. تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق هيمنة الدولار عبر آلية البترودولار بسبب قوتها العسكرية وتطورها التكنولوجي، وفي نصف القرن الماضي استمرت الولايات المتحدة بمراكمة العجز التجاري، بينما تُصدّر الدولار لخلق موازنة في المدفوعات.
إنّ استعداد بلدان تصدير الطاقة وبلدان التصنيع والمعالجة للمتاجرة بالمواد الخام والمواد المصنعة مقابل الدولار، وآمالهم في الحماية العسكرية الأمريكية وتصدير التكنولوجيا، يتغيّر بشكل مستمر. هناك شكوك واسعة النطاق حول قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على نظام الشرق الأوسط في الماضي، والأمر يمتد ليشمل النظام العالمي الذي يؤثر في الصين وروسيا. طالما أنّه لا توجد طريقة للحصول على السلام العسكري والصادرات التكنولوجية من الولايات المتحدة، يُعيد مصدرو المواد الخام والدول المصنعة التفكير في وضع احتياطات الدولار لديهم. ففي عام 2022 استمرّت حيازات الصين والسعودية وروسيا من الدولار بالانخفاض إلى 933.6 مليار، و121 مليار، و2 مليارين على التوالي.
تقوم الصين تبعاً لقدراتها التصنيعية الهائلة- وحصولها على موارد الطاقة بتكاليف مستقرة وزهيدة نسبياً- باستبدال أوروبا واليابان وكوريا بشكل مستمر بوصفها المصدّر الصناعي الأول في العالم. فإذا ما أخذنا صادرات السيارات كمثال، فقد ارتفعت صادرات السيارات الصينية من 2020 إلى بداية 2022 لتصل إلى المرتبة الثانية بعد اليابان. كما أنّ القدرة التنافسية الصينية في مجال تصنيع المعدات الخاصة بالطاقة الكهربائية، والمواد الكيميائية وما يشبهها آخذة في الازدياد بسرعة. وإذا ما نظرنا إلى آثار الحرب في أوكرانيا على ارتفاع تكاليف الصناعة في أوروبا واليابان وكوريا، يمكننا أن نتوقع أنّ الصين وبقيّة الدول الصاعدة صناعياً ستستبدل هذه الدول، وتحصل على حصتها السوقية. سيعني ازدياد أهمية قطّاع الصين الصناعي عالمياً، وازدياد أهميّة اليوان الصيني عالمياً.
تأمل أوروبا اليوم أن تعتمد على الولايات المتحدة كمصدر طاقة مستقر، لكنّ هذا غير ممكن، فحتّى آخر عام 2022 كان الإنتاج الأمريكي للنفط الخام هو 12.2 مليون برميل يومياً، وقدرات المصافي وصلت إلى 95.5٪ وهي الأعلى منذ 5 سنوات، وهذا أقلّ من حاجة أوروبا. من جانب آخر، لا تمتلك الولايات المتحدة الكميات الكافية من الغاز الطبيعي المسال لتغطية احتياجات أوروبا، وحتى لو كانت تمتلكها فاللوجستيات والبنية التحتية غير قادرة على تلبية آمال أوروبا بـ 50 مليار متر مكعب سنوياً. لقد وصلت جدولة طلبيات الغاز المسال الأوروبي المحجوزة من الولايات المتحدة بالفعل إلى عام 2028.
من الناحية الأخرى، فإنّ سعي روسيا لإيجاد أسواق جديدة لموارد طاقتها زاد من تعاونها مع الصين والهند، وعموماً، الدول ذات المصلحة المشتركة في آسيا والشرق الأوسط، ما يعني أنّ قدرات التصنيع لدى الصين والهند ستزداد وتصبح أكثر قدرة تنافسية. كلّ هذا أثناء كسرها لآلية استرداد الدولار. أمّا الحديث عن استعادة الولايات المتحدة لقدارتها التصنيعية المنافسة لآسيا فيبدو أقرب إلى الخيال العلمي، أو دعاية انتخابية في أفضل أحواله. في الحقيقة، قد تمتص الولايات المتحدة القدرات الصناعية الأوروبية، وهو ما يحذر منه قادة أوروبيون يحاولون الانفصال عن الولايات المتحدة، ولكن إذا ما تحدثنا عن الوقوف في وجه آسيا صناعياً اليوم، فحركة التاريخ لن تعين الأمريكيين على فعل ذلك، علاوة على أنّ الولايات المتحدة تعاني بالفعل من تضخم مرتفع ونقص في العمالة.

التغيير العالمي بناءً على واقع موارد الطاقة

قبل الحرب في أوكرانيا، كانت روسيا تنتج قرابة 11.1 مليون برميل من النفط الخام يومياً، وكان تُصدّر منها 5 ملايين برميل، بواقع 3.5 مليون برميل إلى أوروبا، و1.5 مليون برميل إلى الصين، وما يتبقى من 5 إلى 6 مليون برميل يتم نقلها إلى المصافي الروسية لإنتاج منتجات معالجة ومصفاة. بعد الحرب في أوكرانيا، وبحلول تشرين الثاني 2022، انخفض الإنتاج في روسيا إلى 10.9 مليون برميل من النفط الخام يومياً، وكان يُصدّر منها عبر البحر 3.08 مليون برميل. ثمّ بعد سقف الأسعار الغربي في 5 كانون الأول انخفضت صادرات النفط الروسية في اليوم التالي قرابة 500 ألف برميل، وذلك وفقاً لشركة كيبلر للبيانات.
وسط هذا المشهد، من المتوقع أن ينخفض الإنتاج العالمي للنفط أكثر، وأن يزداد الطلب العالمي أكثر أيضاً، ما سيؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعار الطاقة. لكنّ أحد الأسباب الهامة لذلك والتي لا يتمّ ذكرها كثيراً: الانخفاض المحتمل في إنتاج روسيا للنفط، بسبب العوائق التي تركها انسحاب الشركات الغربية التي كانت مسؤولة عن تقديم الدعم التقني والمالي لقطاع النفط الروسي. يمكننا أن نتوقّع بأنّ الدولة الروسية لن تقف مكتوفة الأيدي، أو أنّها بدأت بالفعل باتخاذ الإجراءات المناسبة على المدى الطويل. لكن مع ذلك، يتوقّع كثيرون أن ينخفض الإنتاج الروسي إلى مستويات قياسية. لهذا توقعت وكالة كيبلر أن ترتفع أسعار النفط بشكل هائل في النصف الثاني من 2023.
سيؤدي المشهد العام للطاقة وارتفاعها وزيادة الطلب عليها الخ.. إلى تغيير هيكلي في البنية العالمية المتزعزعة اليوم. من المتوقع أن يصبح أمن الطاقة هو الهاجس الأول لدى جميع الدول. باتت صيحة ترك الأعمال لأوروبا والبحث عن مكانٍ آخر ثابتة اليوم، والهدف سيكون الانتقال، إمّا إلى الولايات المتحدة أو إلى الصين. رغم أنّ أسعار الطاقة- والحوافز– في الولايات المتحدة تشجع عدداً كبيراً من الشركات اليوم على الانتقال إلى أمريكا، فكما أشار كو زين رونغ، محلل الاقتصاد الكلي المتخصص في قطاعي النفط والغاز، فواقع أنّ احتياطي الولايات المتحدة من النفط يعاني، وأنّ البنوك المركزية العالمية تتسابق لملء خزائنها بالذهب، يعني أنّ ميزتي الطاقة والدولار لدى الولايات المتحدة ليستا مستدامتين. بينما لدى الصين مزايا أكبر، تجعلها اليوم على سبيل المثال موطناً لأكبر عشر شركات ألمانية تحصد أكثر من 30٪ من إيراداتها في الصين. إنّ التأثير الذي سيساهم فيه تغيّر هيكل أسواق الطاقة يمكن أن نعتبره كما أطلق عليه كو زين: «التغيير الأكبر في القرن».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1104