ماذا يعني تحوّل الولايات المتحدة إلى مصدّر للنفط الخام؟
بعد تحليل بسيط للأرقام الجديدة التي نشرتها هيئة الإحصاء المركزية الأمريكية ومراكز إحصاء أخرى مستقلة لا بد لنا من التدقيق ببعض دلالات هذه الأرقام وتحديداً على الاقتصاد الأمريكي.
نشرت مجلة فوربس الأمريكية، تقريراً يفيد بأن الولايات المتحدة أنتجت وسطياً خلال الأرباع الثلاثة الأولى من 2023 الجاري 12.8 مليون برميل نفط يومياً، لتكون بذلك تجاوزت الصدمة التي تلقاها هذا القطاع خلال جائحة كورونا، بل تجاوز حتى ذروة الإنتاج النفطي في عام 2019 التي بلغت حينها، 12.3 مليون برميل يومياً.
التطور الذي شهده هذا القطاع يحتاج إلى تفسير، فيرد أولاً إلى أن أسعار النفط بدأت تنتعش مجدداً ما حفّز الاستثمار في هذا القطاع، ومن جهة أخرى أعادت التطورات التي شهدتها أسواق الطاقة منذ بدء الحرب في أوكرانيا حسابات الكثير من المنتجين وخصوصاً في الولايات المتحدة التي أصبحت مصدراً لتزويد أوروبا بجزء من الفاقد الكبير الذي كانت تعتمد على روسيا في تأمينه بوقتٍ سابق. هذا بالإضافة إلى أن زيادة الإنتاج النفطي يسمح لواشنطن بدور أكبر في تسعير هذه السلع على المستوى العالمي بعد أن بدأت الدول الأساسية المنتجة للنفط تتصرف بدرجات أكبر من الاستقلالية. لكن الحافز الأكبر لهذا الانتاج كان السوق المحلية الأمريكية التي وصل استهلاكها إلى أكثر من 20 مليون برميل يومياً.
الصادرات النفطية أرقام جديدة!
ما يثير الانتباه أيضاً حول الأرقام المنشورة مؤخراً، هو أن الصادرات النفطية الأمريكية التي تجاوزت منذ 2017 باقي الصادرات أصبحت اليوم ركناً ثابتاً في قائمة الصادرات، بل تجاوزت بكثير أرقام عام 2017، ففي الوقت الذي تجاوزت فيه صادرات النفط الخام بنسبة 1% باقي الصادرات الأخرى، فإنه في عام 2023 بلغت هذه النسبة 5.61% من أكثر من 1260 فئة تصدير تحددها شركة WorldCity، والأكثر من ذلك أن النفط المكرر حقق المركز الثاني بقائمة الصادرات بنسبة وصلت إلى 5.5% فيما وصلت منتجات الغاز الطبيعي إلى المرتبة الرابعة على المقياس نفسه بنسبة 3.4%.
على الرغم من أن تطور قطاعات إنتاج الطاقة يمكن أن ينظر له بوصفه مفصلاً إيجابياً وخصوصاً كون سوق الطاقة في حالة بحث دائمة عن موردين جدد، وترغب الدول بتنويع مزوديها، لكن لا بد لنا من نقاش المسألة من زاوية أوسع قليلاً، ففي البداية يبدو أن استخراج الطاقة شهد تطوراً تكنولوجياً استطاعت الولايات المتحدة لذلك تطوير الإنتاج في مدة قصيرة نسبياً، لكن الاستهلاك المحلي كان يصل إلى معدلات كبيرة قدّرت بـ 20 مليون برميل، ما يعني أن الإنتاج الضخم لا يكفي لسد الطلب في السوق المحلية، ما أثر دائماً على حجم صادرات الطاقة، لكن تسارع انخفاض الطلب المحلي بدأ يفسح المجال أكثر أمام الصادرات، إذ قالت بيانات الحكومة الأمريكية في نهاية عام 2022 إن واردات النفط الخام انخفضت إلى 1.1 مليون برميل في اليوم بعد أن وصلت قبل 5 سنوات من ذلك إلى 7 مليون برميل في اليوم. ما يعني أن زيادة الصادرات النفطية ارتبطت أولاً بانخفاض كبير على الطلب وزيادة بنسبة أقل في الإنتاج، والأخطر من ذلك أن انخفاض الطلب المحلي على النفط يعد مؤشراً جدياً على أزمة متصاعدة في قطاعات الإنتاج الأخرى التي كانت المستهلك الأول للطاقة.
أي أن الأرقام التي يجري تداولها في الآونة الأخيرة تعطي صورة مختلفة عن النظرة السائدة حول الاقتصاد الأمريكي، إذ بدأت الولايات المتحدة تتحول من كونها المصدر الأول لسلع مصنعة ومتطورة لتكون مصدراً لمواد خام، ما يعكس حجم التشوه الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي والانحسار الكبير في حجم الاستثمارات بميادين الصناعة، فقد تراجعت - على سبيل المثال - صادرات الطائرات وقطع غيارها من كونها المركز اﻷول من عام 2015 إلى عام 2022 لتكون الآن في المركز الثالث بعد النفط الخام والمشتقات النفطية. والقول اليوم بأن الطلب على الطاقة يشهد انخفاضاً في السوق المحلي يعني أن آثار التدهور ستكون سريعة وملحوظة بشكلٍ أكبر في السنوات القادمة.