بايدن يسعى لتحييد نتنياهو... لإطالة العدوان وليس لإنهائه!

بايدن يسعى لتحييد نتنياهو... لإطالة العدوان وليس لإنهائه!

«لا بد لنتنياهو من تغيير حكومته المتشددة لإيجاد حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني». «الحكومة الحالية هي أكثر الحكومات محافظةً في تاريخ إسرائيل ولا تريد حل الدولتين». «الحكومة الإسرائيلية بدأت بفقد الدعم من المجتمع الدولي بسبب القصف العشوائي في قطاع غزة».

انتشرت الاقتباسات الواردة أعلاه بشكلٍ واسع النطاق خلال الأيام القليلة الماضية. وهي تصريحات قالها الرئيس الأمريكي بايدن يوم الثلاثاء الماضي 12/12 خلال حفل استقبالٍ انتخابي في البيت الأبيض تم تكريسه لـ«مجموعات يهودية» احتفالاً بعيد «حانوكا» اليهودي.

وقد جرى استقبال هذه التصريحات عالمياً بكم كبيرٍ من التحليلات والتوقعات، وقد جرى اعتبارها أشدّ انتقادٍ يتلقاه كيان الاحتلال وحكومته، ليس منذ 7 أكتوبر، بل ومنذ سنوات طويلة.

بطبيعة الحال، لم يجر تسليط الضوء على تصريحات أخرى أدلى بها بايدن نفسه، وخلال المناسبة نفسها؛ من قبيل أنه أعاد مرة أخرى تكرار الأكاذيب حول قطع رؤوس الأطفال، بل وأضاف فوقها كذبة فظيعة عن أنّ المقاومة الفلسطينية قامت بربط أم وابنتها وسكبت فوقهما الكيروسين وأحرقتهما، ناهيك عن تكرار أكاذيب الاغتصاب والتعذيب وإلى ما هنالك. وفوق هذا فقد وصف بايدن مقاتلي حماس، بكل وضوحٍ وصراحة ووقاحة، بالقول: «إنهم حيوانات، إنهم حيوانات». وأضاف أن الولايات المتحدة ستواصل دعمها لـ«إسرائيل» بكل الوسائل والسبل وحتى النهاية، وأنّه: «دون إسرائيل كدولة قائمة بذاتها، لن يكون هناك يهودي واحد في العالم، آمن. ولا حتى يهودي واحد»!

رغم أنّ كلّ عاقلٍ على وجه هذه الأرض لا يحتاج إلى إثباتات بأنّ الولايات المتحدة هي شريكٌ مباشر في الحرب، بل وقائد لها، إلا أنه من المفيد الإشارة إلى هذه التصريحات التي لم يعرها الإعلام اهتماماً مقارنة بـ«الانتقادات» التي وجهها بايدن لنتنياهو وحكومته.

ما هو هدف الانتقادات؟

تصريحات جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي خلال أول زيارة يقوم بها للكيان منذ 7 أكتوبر يوم أمس الخميس 14/12، تكشف جانباً مهماً من الغاية وراء انتقادات بايدن.

أبعد من ذلك، فهي تكشف الاتجاه الفعلي العملي الذي تدير واشنطن العدوان الصهيوني باتجاهه؛ فالقارئ لتاريخ السياسات والسلطات الأمريكية، يعرف جيداً أن هذا المنصب بالتحديد، أي منصب مستشار الأمن القومي، عادةً ما يكون أهم وأكثر تأثيراً من منصب الرئيس الأمريكي، وربما الاستثناء الوحيد الذي يثبت القاعدة هو مرحلة ترامب الذي أقال خلال ولايته ثلاثة مستشارين للأمن القومي هم على التوالي: مايكل فلين، هربرت ماكماستر، وجون بولتون.

عودةً إلى تصريحات سوليفان، فربما أهم ما جاء فيها هو ما نقله عنه كيربي المتحدث باسم البيت الأبيض، والذي قال: «ناقش (سوليفان)، خلال زيارته لإسرائيل يوم الخميس، تحولاً للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة؛ وقد تحدّث عن إمكانية الانتقال ممّا نسمّيه العمليات عالية الكثافة، التي نراهم يقومون بها الآن، إلى عمليات أخف وطأة في المستقبل القريب، إلا أنه لا يريد أن يحدّد جدولاً زمنياً لذلك»، مؤكداً أنّ واشنطن: «لا تملي الشروط على إسرائيل».

وكي تكتمل الصورة، لا بد من النظر إلى انتقادات بايدن وتصريحات سوليفان، باعتبارهما مكوِّنين لسياسة واحدة ولخطة واحدة.

جوهر هذه الخطة يقوم، لا على السعي لوقف إطلاق النار، بل على العكس من ذلك؛ السعي لإطالة إطلاق النار إلى أطول فترة ممكنة؛ فلنتذكَّرْ أنّ لاءات واشنطن الثلاثة ما تزال موضع التنفيذ إلى هذا الحد أو ذاك. (لا لوقف إطلاق النار، لا لتوسيع نطاق الحرب، لا لاجتياحٍ برّيٍ واسع يمكنه أن يقود لتوسيع نطاق الحرب).

السياسة التي تتّبعها «إسرائيل» في حربها، ورغم أنها تتماشى مع الشرط الأول بشكلٍ كاملٍ، أيْ (لا لوقف إطلاق النار)، إلا أنّها تهدّد ثبات الشَّرطَين الآخَرين؛ فهي تقترب يوماً وراء آخر من فتح باب توسُّع الحرب نحو حربٍ إقليمية شاملة، وتضع دول الطوق، ودولاً أبعد من الطوق المباشر، بما فيها تلك التي مشت أنظمتها طريقاً طويلاً ضمن التطبيع، تضعها في عداءٍ اضطراري وإلزامي مع الكيان، وليس هذا ما تريده الولايات المتحدة...

ما تسعى له واشنطن هو حرب واسعة النطاق، حربٌ تشمل الشرق الأوسط بأكمله، لكنْ حربٌ من نوعٍ آخر، وبالأحرى: مجموعة حروب.

فلنبدأ بتثبيت الحقيقة التالية، اللحظة التي سيتم فيها وقف إطلاق النار، (آخذين بعين الاعتبار أنّ أيّاً من أهداف الكيان لن يتم تحقيقها، لا القضاء على حماس ولا تهجير سكان غزة ولا تدمير الأنفاق ولا إنهاء قدرات المقاومة... إلخ)، هي ذاتها لحظة إعلان هزيمة ضخمة، ليس للكيان فقط، بل وللولايات المتحدة أيضاً ولنفوذها في كامل المنطقة. ولذا ينبغي تأجيل وقف إطلاق النار حتى إيجاد مخرج.

المخرج بالنسبة للولايات المتحدة هو استخدام درجة الحرارة المرتفعة في فلسطين، كصاعق تفجير داخلي في عدة دول في المنطقة، الأكثر ترشيحاً بينها لذلك هو مصر، ومصر نفسها في حال انفجرت ستتحوَّل إلى صاعق تفجير للسعودية وغيرها. والمقصود هنا هو «الفوضى الشاملة» القائمة على صراعات وحروبٍ وانفجارات داخلية، يجري تحفيزها والعمل عليها بالاستفادة من هشاشة الأنظمة في المنطقة، وهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاختراقات التاريخية الكبرى ضمنها، ونار العدوان الهمجي الجاري على الفلسطينيين.

ضمن هذه الإحداثيات، يصبح مفهوماً أنّ تغييراً كبيراً ضمن طاقم القيادة في الكيان بات ضرورياً من وجهة النظر الأمريكية؛ فمحاولة نتنياهو النجاة بنفسه سياسياً، وتكييف الحرب وفقاً لذلك تدفعه نحو حماقات كبرى في إدارة الحرب؛ ليس أقلها الجرائم الوحشية الكثيفة التي يرتكبها جيشه. طريقة الإدارة هذه، باتت تتعارض مع مخطط إطالة أمد الحرب إلى آجالٍ غير مسمّاة، أسابيع وأشهر وربما أكثر، ريثما يصبح ممكناً تفجير الفوضى الشاملة في المنطقة والتي يجري العمل عليها بدأبٍ هستيري، وبشكل يومي.

يمكن أن نفهم هذا بشكل مباشر من كلام سوليفان الذي يتحدّث في الوقت نفسه عن آجالٍ مفتوحة وعن «الانتقال من العمليات عالية الكثافة إلى عمليات أخف وطأة في المستقبل القريب».

ويمكن أن نفهم أيضاً حديث بايدن عن «تراجع الدعم الدولي لإسرائيل»، والذي يبدو تعبيراً ملطَّفاً عن واقع الحال، ويبدو التفافاً على حقيقة العزلة المتزايدة للولايات المتحدة على النطاق الدولي في «دعمها» غير المحدود وغير المشروط للإبادة الجماعية، وفي الحقيقة في إدارتها لتلك الإبادة.

الانتقال إلى نمطٍ مختلفٍ من العمليات، «أخف وطأةً»، يعني في الجوهر إطالة أمد الصراع دون أي سقوفٍ زمنية.

اللعب في الوقت بدل الضائع

هذا النمط من «الإدارة الأمريكية للصراعات»، لم يعد جديداً؛ فالنظر إلى الصراعات والأزمات الجارية في سورية والسودان وليبيا والعراق واليمن وأوكرانيا، يسمح بالاستنتاج بأنّ كلّ معركة جديدة يجري فتحها حول العالم، ينبغي أن تستمر إلى ما لا نهاية من وجهة النظر الأمريكية؛ مشروع الهيمنة الأمريكية العالمية بات قائماً على فكرة واحدة مهما تعدّدت أدواتها: ينبغي إشعال أكبر قدر ممكن من الصراعات في مختلف أنحاء العالم، وينبغي منع إنهاء أيٍّ منها.

مشكلة الأمريكان المستعصية، هي أنّ الوقت عدوّهم الأساسي؛ فهم إذ يسرقون وقتاً مستقطعاً من التاريخ عبر جملة الصراعات التي يشعلونها، وعبر الدماء التي يتم سفكها حول الكوكب، فإنّ هذا يبقى وقتاً مستقطعاً لن يغيّر من النتيجة النهائية، لأنّه وأثناء هذا الوقت المستقطع نفسه، تتلقى شباكهم مزيداً من الأهداف في المجالات الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية والثقافية... وإلخ.

ولذا من الممكن التوقُّع بأنّ واشنطن باتت على وشك خسارة قدرتها على إشعال الحرائق العالمية، إمّا مرةً واحدةً وإلى الأبد، أو بالتدريج السريع... وربما يشكّل وقف إطلاق النار في فلسطين في حال حدوثه، نموذجاً أوّلَ لما سيليه في مناطق مختلفة حول العالم...