ماذا يعني الإعلان الروسي عن انهيار العالَم أحاديّ القطب؟
«ماذا يحدث اليوم؟ اليوم، يتم إلغاء نظام العالم أحادي القطب الذي تشكَّل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا هو الشيء الرئيسي». جاء هذا التصريح على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 12 نيسان 2022. ومع أنّ هذه الحقيقة تتزايد وضوحاً يومياً وتتزايد التحليلات عنها بشكل كبير في الآونة الأخيرة، لكنّ الجديد هو التصريح بأولويّتها وأساسيّتها من أعلى مستوى سياسي في روسيا التي تشكل (مع الصين) ثنائيّ القوى الأبرز في العالَم الجديد الصاعد، ولا سيّما بأنّ العبارة جاءت في سياق ربطها بنقطتين، الأولى تتعلق بضخامة المنعطف التاريخي الذي لا يمكن اختزاله بالجانب العسكري (ولا بالمعركة الأوكرانية، على أهمّيتها)، والثانية تتعلق بالأساس والخارطة الجيو-اقتصادية عبر ما أورده بوتين من تذكير ضمني بحقيقة تخلّف الولايات المتحدة عن الصين بالناتج المحلي الإجمالي المحسوب عند تعادل القوة الشرائية. ولما كانت صلاحية مؤسسات القطب الواحد وعصر «العَولَمة الأمريكية» قد انتهت، فإنّ من الطبيعي أن يتم ترسيخ انعكاس هذا الواقع في خطاب القوى الصاعدة لأنه ضروري للتعبئة من أجل ممارسة مزيد من الخطوات العملية القادمة المرتقبة لبناء مؤسسات العالَم الجديد على أنقاض مؤسسات الأحادية الآفلة، وحلّ تناقضٍ مزمن كان يتمثّل بعدم التناسب بين الحجوم السياسية والأوزان الاقتصادية لقوى العالم، والذي ساد بشكل خاص في الحقبة بين «نهاية التاريخ» 1990 و«نهاية نهاية التاريخ» 2022.
ظهرت بعض التصريحات المتعلقة بقضية الانتقال إلى «عالم متعدد الأقطاب» خلال الفترة القصيرة الماضية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما قاله لافروف في 30 من آذار الماضي خلال زيارته للصين، بأنّ «العالم يعيش مرحلة بالغة الخطورة في تاريخ العلاقات الدولية... سنمضي وإياكم نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب عادل وديمقراطي». وفي سياق ذي صلة يضع لافروف العملية العسكرية الروسية في إطار أوسع من العملية ومن أوكرانيا كلها، فيما يبدو نوعاً من تطوير الخطاب الذي ساد بدايات المرحلة الأولى من العملية العسكرية عندما كان التركيز في الخطاب الرسمي الروسي على «الدفاع عن الدونباس» و«نزع سلاح أوكرانيا» و«اجتثاث النازية منها» وأن تكون «بلداً محايداً» وما إلى ذلك، في حين نسمع لافروف يتحدث في 11 نيسان الجاري لـ«شبكة تلفزيون روسيا» عن منع هيمنة واشنطن والناتو «على الساحة العالمية»، حيث قال: «تم تصميم عمليتنا العسكرية الخاصة لوضع حد للتوسع غير المحدود لحلف الناتو ولمنع الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى من تحقيق الهيمنة الكاملة على الساحة العالمية».
بالنسبة لتصريح بوتين حول أن ما يجري هو «إلغاءٌ لنظام العالم أحادي»، فإنه جاء في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس بيلاورسيا ألكسندر لوكاشينكو بتاريخ 12 نيسان، وضمن سياق كأنما يردّ فيه على تلك المحاولات لتضييق إطار رؤية الأحداث والتي تحصرها بمجرد نزاع عسكري «محلي» أو «إقليمي» والتي يجري اختزالها عادةً بكلمات ثلاث «الغزو الروسي لأوكرانيا». وهكذا وبخلاف ذلك أكد بوتين على أن الموضوع أكبر بكثير من أوكرانيا حيث قال إنّ «الشيء الرئيسي ليس حتى الأحداث المأساوية التي تحدث في دونباس وأوكرانيا».
إشارة مهمّة لمفتاح القوة الاقتصادي
كان لافتاً أيضاً ما أورده بوتين في الحديث نفسه من ربط بين انتهاء الأحادية القطبية وأحد مؤشرات الجوهر الاقتصادي للمسألة، قائلاً «بمجرّد نظرة على الاتجاهات في الاقتصاد العالمي على مدار العقد الماضي، في حجم النمو الاقتصادي عند تعادل القوة الشرائية، وأين يتواجد المتصدّرون بهذا، وما هي الوتيرة، سيتضح كل شيء».
هذه الحقيقة الاقتصادية كانت واضحة بالفعل وقبل الحدث الأوكراني بسنوات، فقد تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل إلى المرتبة الثانية بعد الصين في مؤشر «الناتج المحلي الإجمالي المحسوب على أساس تعادل القوة الشرائية» GDP PPP. ولكن يبدو أنّ كثيرين كانوا إما يقللون من أهمية ذلك، أو يتعامون عنه بعقلية مهزومة ورؤى قاصرة تعيد اجترار خطاب وممارسة السادات القائل بأنّ «%99 من الأوراق بيد أمريكا»، مثلما لاحظت ذلك وأشارت إليه افتتاحية قاسيون في 13 كانون الأول 2021 تحت عنوان «ما زالت تدور!»، ومن اللافت أنّ الافتتاحية نفسها أشارت يومذاك أيضاً إلى أهمّية تحولات ميزان القوى الاقتصادي العالمي فجاء فيها: «تفوّقت بكين منذ سنوات في حجم الناتج الحقيقي المقاس بالقدرة الشرائية، وفي وزن الصناعة والزراعة ضمن هذا الناتج، وذلك بعد ربع قرن من نسب نموٍ تراوحت بين 6- 9%، في حين كانت نسب النمو في واشنطن بين 2- 3%» وكذلك إلى الاختلاف بمقاييس العدالة النسبية في توزيع الثروة والذي لا يفوت أحدٌ أهميتها في استقرار أية حضارة وتطورها أو تزعزعها وانهيارها، حيث لفتت تلك الافتتاحية إلى أهمية الاختلاف بين إنجاز الصين لرفع الأجور الحقيقية «أربعة أضعافٍ خلال ربع قرن، منتشلةً ما يزيد عن 600 مليون صيني من تحت خط الفقر» في حين «بقيت الأجور الحقيقية على حالها في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، وتضخمت ثروات القلة المتنفذة في اتجاه معاكس».
ما الجوهر التاريخي خلف التمظهر الآني للجاري؟
أشارت قاسيون في افتتاحيتها المعنونة «كيف هو العالم وسورية على بوابة 2022» في 27-11-2021 وقبل التجلّي الأوكراني لانفجار أزمة القطب الآفل، بأنه «مع دخول العام الجديد، تكون قد مرت ثلاثون سنة على مأساة ولادة العالم أحادي القطبية» وأن واشنطن تواصل «خطها البياني النازل على كافة المستويات، وفي القلب منها الاقتصادي» في مقابل «مواصلة الصين تقديم نموذج فريد من النمو الهائل على كافة المستويات» وكذلك الارتفاع المطرد والثابت لـ«وزن الدور الدولي لروسيا» مع ارتفاع «مستوى استحقاقات التغيير العميق الداخلية، والمتعلقة بالدرجة الأولى بإعادة توزيع الثروة من فوق إلى تحت، وهي العتبة التي لن تتمكن روسيا دونها من حماية نفسها بدايةً، ومن ثم من الاستمرار بلعب دورها العالمي».
ثم وصفت افتتاحية قاسيون المعنونة «لمن تقرع طبول الحرب؟» في 24-1-2022 أنّ «لحظة التوتر القصوى التي يعيشها العالم هذه الأيام، هي تكثيف لمجمل التغييرات التي جرت خلال العشرين عاماً الماضية، من صعود الصاعدين وفي مقدمتهم الصين وروسيا، وتراجع المتراجعين بزعامتهم الأمريكية» وأنّ «ما نشهده الآن هو لحظة انعطافٍ تاريخية ستأخذ وقتها، يتكثف فيها غضب الغرب من الوقائع الجديدة، عبر وصوله إلى أقصى حدود التصعيد الممكنة، ولكن يتكثف فيها أيضاً إرهاقه من تلك الوقائع في الوقت نفسه». وأكدت قبيل بدء العملية العسكرية الروسية، في افتتاحية 21 شباط 2022 بعنوان «ما وراء أوكرانيا»، على أنّ «مضامين المعركة الجارية وأبعادها، أكبر بكثير من أوكرانيا نفسها، بل وتصل بنتائجها حدود الفصل بين حقبتين من التاريخ العالمي» ولفتت إلى درجة الجنون «التي تدفع الولايات المتحدة إلى إعلان تاريخ حرب بين دولتين أخريين دون رأي ودون رغبة أي منهما» بوصفها «تعكس حجم التأزم الأمريكي الداخلي قبل أي شيء آخر، خاصة ونحن على أعتاب ما بات متفقاً على وصفه في الأوساط الأكاديمية بأنه ليس الانهيار المالي القادم، بل انهيار النظام المالي العالمي القادم». وفي افتتاحية 28 شباط 2022 «عالم ما بعد أوكرانيا»: «انتهت الصلاحية التاريخية للنظام السياسي العالمي بشكله القائم، وممثلاً بالأمم المتحدة وبالمنظمات الدولية الأساسية جميعها، والتي ما تزال تعكس في تركيبتها وآليات عملها توازنات دولية عفا عليها الزمن» وأنّ «وقت حل الناتو قد حان... وأما الأزمات الناشئة والتي يمكن أن تنشأ، فينبغي حلها عبر الأمم المتحدة بعد إعادة تشكيلها». ورأت الافتتاحية نفسها آنذاك أنّ «العقوبات الغربية على روسيا، وخاصة فصل عددٍ كبيرٍ من بنوكها عن نظام التحويلات بين البنكية العالمية (سويفت) وما سيتبع ذلك من تأثيرات على أسواق الطاقة والغذاء العالمية، ستسرع إلى الحدود القصوى، العمليات التي كانت جارية أساساً منذ ما يقرب العقدين؛ أي: أ- التراجع المطرد لقدرة النظام المالي العالمي القائم والمستند إلى سطوة الدولار. ب- تراجع إمكانات استمرار التبادل اللامتكافئ. ج- تطور العلاقات البينية بين الصين وروسيا، وكذلك بين روسيا والصين معاً، مع دول أخرى حول العالم، ضمن منظومة بريكس وغيرها، وصولاً إلى تحقيق الانقلاب الجيوسياسي في منظومة وخطوط التجارة الدولية، وفي تقسيم العمل الدولي».
الناتو والبنتاغون عن احتضار العالَم «القائم على القواعد» الأحادية
عقد الناتو اجتماعاً يومي 6 و7 نيسان 2022 في بروكسل حيث قال أمينه العام ينس ستولتنبرغ إنّ حلفاء الناتو «مصممون على تقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا، بما في ذلك توفير الأسلحة». وكان لافتاً أن ستولتنبرغ أشار إلى الصين أيضاً فقال إن الناتو «سيحتاج أن يأخذ في الاعتبار التأثير المتزايد للصين والسياسات الشاملة والقسرية على المسرح العالمي، والتي تشكل تحدياً منهجياً لأمننا وديمقراطياتنا».
وجاء خطاب ستولتنبرغ متزامناً تقريباً مع كلام أدميرال الجيش الأمريكي تشارلز ريتشاردز أمام اللجنة الفرعية لتخصيصات الدفاع في الكونغرس الأمريكي، حيث تحدّث عن «التحدي المنهجي» الذي فرضه صعود الصين، وقال إنّ الصين «تواصل التوسع المذهل لقواتها الاستراتيجية والنووية بنوايا غامضة فيما يتعلق باستخدامها» على حد زعمه. ومضى ريتشاردز ليقول إنّ «البيئة الأمنية الاستراتيجية هي الآن حقيقة نووية ثلاثية الأطراف، حيث تؤكد جمهورية الصين الشعبية وروسيا نفسيهما بحزم وتقوّضان القانون الدولي والنظام القائم على القواعد والمعايير في كل مجال».
وفيما يعتبر ملاحظة اعترافية بالوضع الدولي غير المسبوق الذي يتحدى عالَم الأحادية القطبية الأمريكي، قال ريتشاردز: «لم يحدث من قبل أبداً أنْ واجهت هذه الأمة في وقت واحد قوتين نوويّتين متقاربتين يجب ردع كل منهما بشكل مختلف. اليوم، تتمتع كل من جمهورية الصين الشعبية وروسيا بالقدرة على تصعيد الصراع من جانب واحد إلى أيّ مستوى من العنف، وفي أي مجال، في جميع أنحاء العالم، بأيّ أداة للقوة الوطنية، وفي أي وقت».
ولم يفت الأدميرال الإشارة إلى تحدّي التقدم العسكري والتكنولوجي الروسي (وربما الصيني أيضاً) فقال «إنّ أنظمة إيصال الأسلحة الجديدة والمتقدمة، والعديد منها قادر على تحقيق سرعات فرط صوتية وتعديل مسار الرحلة المصمّمة لتجنب أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية. إنهم يواصلون تطوير أنظمة إستراتيجية إضافية برؤوس حربية جديدة تفوق سرعة الصوت لتوسيع نطاق التهديدات ضد الولايات المتحدة».
«أوكرانيا مجرّد صاعق»
من المفيد التذكير بما جاء في افتتاحية قاسيون في 11 نيسان 2022 بعنوان «أوكرانيا مجرد صاعق» حيث ذكّرتْ بما ورد في التقرير المقدم لاجتماع الوطني التاسع للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين -الإرادة الشعبية لاحقاً- في كانون الأول 2010، بأنّ: «الأزمة الرأسمالية عميقة، متصاعدة، وستفتح الخيارات المختلفة للحرب وتوسيع رقعتها... وهي يمكن أن تكون أزمة نهائية في حال توفر العنصر الذاتي...». وأكدت الافتتاحية نفسها على أنّ «معركة أوكرانيا ليست سوى صاعق لمعركة أكبر وأوسع وأعمق... لتأخذ شكلها الكامل كمعركة حول النظام العالمي الجديد بمختلف أبعاده، والأساسي فيها هي الأبعاد الأربعة التي ذكرناها...» والمقصود هي: «تغيير النظام السياسي العالمي، إنهاء حلف الناتو، إنهاء الوضع الخاص للدولار كعملة عالمية، حل الأزمات الإقليمية المختلفة التي كانت معلقة طوال عقود بفعل الأمريكي».
إذاً، الإعلان الروسي عن أنّ ما نشهده هو انهيار العالم أحادي القطب، يعني بأنّ قوة القطب الأوحد القديم شارفت عملياً على الانهزام، ومشاريعها لم تعد سوى عرقلة لولادة العالم الجديد، وهذا الأمر بطبيعته لا يمكن أن يكون إلا أبعد وأوسع من أحداث أوكرانيا التي ليست سوى واحدة فقط من تقلّصات مخاض عديدة على الساحة العالمية وفي كل المجالات سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً... سنشهدها قبل أن تكتمل ولادة العالَم الجديد من رحم التاريخ.