الهند ترفض أوامر واشنطن علناً وأمام شاشات التلفاز
من بين المواقع الكثيرة، تسرق الهند الكثير من الاهتمام مؤخراً بوصفها منطقة استراتيجيةً حساسة، وذلك لموقعها في وسط ساحة الصراع الرئيسي والذي قد يكون صراعاً نهائياً بين العالم القديم المتعفن والآخر الجديد المتشكل.
يرى بعض المحللين أنّ سباقاً يجري لكسب الهند بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والدول الغربية من جهة ثانية، وإن كانت الصورة تبدو كذلك فعلاً للوهلة الأولى إلا أنّ الواقع مختلف عن ذلك بشكلٍ كبير، فالمسألة حسمت منذ زمن طويل لكن نتائجها لم تظهر جلية بعد.
محاولات أمريكية فاشلة
بعد بدء الحرب في أوكرانيا وفي سياق المحاولات الأمريكية المحمومة لزج الجميع في الحملة المضادة لروسيا، تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن منتقداً الموقف الهندي ووصف الهند بأنها البلد الأكثر تأرجحاً من بين دول المجموعة المعروفة باسم «كواد» والتي تقودها الولايات المتحدة وتضم الهند وأستراليا واليابان. لكن واشنطن ذهبت في منحىً مختلف في الأيام التي تلت هذه التصريحات، فَعَقَد البلدان سلسلةً من اللقاءات على أعلى المستويات، حيث أجرى وزراء الخارجية والدفاع في البلدين لقاءات مشتركة وعقد على هامشها الرئيس بايدن مع رئيس الوزراء الهندي لقاءً عبر الفيديو لمناقشة العلاقات بين البلدين، لكن المسعى الأمريكي كان معلناً بوضوح، وهو محاولة إبعاد الهند عن روسيا بل ودفعها إلى الخندق الأمريكي في مواجهة موسكو، وحاولت واشنطن في هذه اللقاءات إبداء درجة ما من المرونة في محاولة لاستيعاب نيودلهي، فركزت المساعي الأمريكية على واردات محددة، كان على رأسها الطاقة، فواشنطن ترى أن العلاقات الهندية الروسية تساهم بشكل ملحوظ في كسر الحصار الذي تحاول الولايات المتحدة فرضَه على روسيا، لكن مشكلة واشنطن أنها عاجزة عن تغيير هذا الواقع مما يجعل العقوبات الأمريكية ذات آثار عكسية.
الملفت فيما خرج عن هذه اللقاءات هو أنَّ الهند لم تحاول حتى حفظ ماء وجه الولايات المتحدة وكان ردُّها واضحاً وحاسماً في هذه المسألة، بل إنّ وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار قال في تصريحات جريئة لوسائل الإعلام أنَّ الإمدادات الشهرية من الطاقة الروسية إلى الهند تعادل ما تستوردُه أوروبا في نصف يوم! وهو ما يعني بشكلٍ غير مباشر أنَّ واشنطن لم تنجح حتى اللحظة في ثني أوروبا عن الطاقة الروسية يجب أن تدرك أنَّ الهند غير معنية بالحفاظ على المصالح الضيقة للولايات المتحدة وخصوصاً عندما تتعارض مع مصالحها الوطنية، وهو ما كرَّره جايشانكار بوضوح عندما قال في ظهوره الإعلامي: «نحن نفهم مصالحنا جيداً ونعلم كيف نحميها ونعززها» وانتقد الأسئلة المتكرّرة من الصحافة الغربية بشكل بعيد عن المواربة فردَّ على سؤال لأحد وكالات الأنباء اليابانية والتي حاول مراسلها الإشارة إلى ضرورة أن تقلّل نيودلهي اعتمادَها على موسكو في المجالات الاقتصادية والعسكرية، ليجيبَه وزيرُ الخارجية الهندي: «يبدو أنه جاء دوري للحصول على النصائح والاقتراحات الكثيرة من الصحافة!».
القادم هو الأهم
الرفض الهندي الصريح لطلبات واشنطن لم يكن مستغرباً، وتحديداً في هذه اللحظات، وهو ما يعيدنا إلى الفكرة الأولى، فالهند لم تعد فعلياً ضمن التجاذب، فهي عضو حيوي لمجموعة البريكس التي أبدى أعضاؤها موقفاً واضحاً وحسموا مواقعهم منذ زمن، وعلى الرغم من أنَّ الرفضَ الهندي الصريح يشكّل تحدّياً واضحاً لواشنطن في المنطقة إلا أنه يعكس في الوقت نفسه أنَّ الولايات المتحدة لم تعد ذلك البلد الذي هيمن على العالم لعقود، يمكننا القول إنّ مساعي واشنطن التي تفشل أمام أعين الجميع تساهم بتدهور صورتها ومكانتها بسرعة كبرى، لكن الظرف العالمي الحسَّاس الذي نشهدُه اليوم، يجعل من سلوك الهند وغيرها من الدول الفاعلة على الساحة العالمية ذا تأثير واسع على مجرى التطورات، فإلى جانب رفض مطالب واشنطن علناً تساهم الهند في علاقاتها مع روسيا على سبيل المثال برسم الملامح الجديدة للعلاقات الدولية المستقلّة التي يجري تثبيتها اليوم في العالم، تلك التي تنطلق الدول صاحبة العلاقة فيها من مصالحها ومصالح شعوبها بالدرجة الأولى وتتجاهل ما فُرِضَ عليها سابقاً من قبل الدول الغربية التي ساهمت لعقود طويلة بتفتيتها ونهب ثرواتها.