الشيطان والتفاصيل الصغيرة!
«يامحلا أيام الحرب» تتردد هذه الجملة بين كثير من السوريين، ليس لأنهم شعب عنيف ولا لأنهم يحبون القتال، بل لأنهم يعانون الأمرين في معركة البقاء اليومية.
«يامحلا أيام الحرب» تتردد هذه الجملة بين كثير من السوريين، ليس لأنهم شعب عنيف ولا لأنهم يحبون القتال، بل لأنهم يعانون الأمرين في معركة البقاء اليومية.
قد ينسى كثيرون، ممن ليس مهتماً بالشأن العام أو الشأن الفلسطيني، ولكن للمفارقة، يقوم الكيان الصهيوني خلال اعتداءاته المتكررة بالتذكير بقضية أصبحت اليوم محوراً للاهتمام العالمي بعد العدوان الأخير على غزة، لقد غيرت عملية طوفان الأقصى المعادلات السابقة للصراع بين قطبين، يمثل أحدهما الواجهة لأعتى قوة غاشمة في العالم، وتمثل الأخرى شعباً تعرض لأشد أشكال الاضطهاد ولكنه أثبت اليوم قدرته على المقاومة وإمكانية الانتصار.
يُشكّك كثيرون بجدوى دعوات مُقاطعة البضائع «الاسرائيلية» وفاعليّتها التي رافقت الاحتجاجات العالمية الواسعة والمتنوعة ضد إرهاب الكيان الصهيوني منذ بدء طوفان الأقصى، وكانت أحد أشكالها.
تشترك غالبية مدن العالم في هذا العصر بانقسامها فعلياً إلى مدينتين، واحدة للأغنياء، تسطع أضواؤها من بعيد، شوارعها معبدة ونظيفة، منازلها واسعة بنوافذ عريضة يلعب فيها الهواء وحدائق مزينة بالشجيرات والأزهار. والأخرى للفقراء، تمتلك كل الصفات المعاكسة للأولى، لا كهرباء ولا إضاءة، بيوتها متراصة فوق بعضها البعض، لا تهوية ولا شمس تدخلها..
لم تعرف الأم بماذا تجيب طفلتها ذات ثلاث السنوات العائدة من الروضة وهي تظهر لأمها «أحسنتِ» كبيرة بالأحمر نالتها من مشرفتها لأنها لوّنت علم فلسطين، عندما سألتها فجأة وبنبرة بريئة: «ماما، كل الأطفال بيموتوا ولّا بس الأطفال الفلسطينيين؟.»
إذا كانت الحروب تظهر الوجوه الحقيقية للبشر فإن معركة غزة اليوم أظهرت الوجوه والقلوب ومعادن الناس أيضاً، إنها مثل ورقة عباد الشمس. تعددت وجوه المعركة وعلى أكثر من محور، فهي حرب عسكرية وسياسية وإعلامية وإنسانية وأخلاقية.. إلخ. ويطول النقاش في كل محور على حده.
يسطر الفلسطينيون اليوم ملحمة تاريخية، يكتبونها بدمائهم وحجارة بيوتهم. ويؤسسون لمرحلة جديدة في الصراع، على المستوى الإقليمي، والمباشر بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.
يمكن للمرء أن يكتب صفحات عن القهر الذي يعيشه ويشعر به غالبية السوريين، لأن حزناً نما خلال فترة طويلة في عظام الناس، وأصبحت له تقاليده وكلماته الخاصة. يتفرد فيه الفقراء بالمأساة: العيش تحت خط الفقر بأمتار، خبز رديء، طوابير من الناس يهدرون يومهم للحصول على حاجتهم الأساسية من خبز وغاز ومساعدات.. العيش في العتمة والمرض، وأشكال أخرى من القهر..
يرسم غسان كنفاني في أعماله الأدبية ومقالاته صورة واضحة وجلية للمكان، ليصبح أحد أبطاله المهمين، «اللا مرئي» ولكن «لا غنى عنه» في النص، مَثله في ذلك مَثل الذاكرة، بطل آخر، يتفنن كنفاني في رسمه وتوظيفه للقضية التي يناضل من أجلها. يفعل ذلك بذكاء سياسي وطني محنك ومهارة أديب وفنان قل نظيره.
على موائد الغالبية العظمى من السوريين تتقلص الأنواع والكميات المقدمة في الوجبة الواحدة، وتنسحب بعضها شيئاً فشيئاً لتختفي قسرياً وبشكل نهائي رغم محبة أفراد العائلة لها! ورغم شهرتها الواسعة بالغنى والتنوع، فالمائدة السورية لم تشتهر بتعدد أصناف الطعام وتنوعها فحسب، بل بتقديمها مأكولات لذيذة وشهية وبنكهاتها المتنوعة والمختلفة، يشهد لها بذلك غالبية متذوقيها من غير السوريين.