بركان القوى الكامنة ورهاناتها

بركان القوى الكامنة ورهاناتها

«ثمّة شيء عظيم يولد من بين ركام الهزيمة، مثلما يولد بركان من تحت الشظايا الباردة لجبل مهجور. فالجرح إذا انفتح في جسد ميّت لا يؤدي إلى أيّ اهتزاز، لكنه إذا ما انشقّ في جسد حيّ زاد قابليّته للمقاومة، وحرّك القوة الكامنة في أعماقه وضاعف من طاقاته على الرّد»، غسان كنفاني في «ندوة بيروت» آذار 1968.

تترتّب على استمرار حرب الإبادة ضد قطاع غزّة أثمان يدفعها الكيان الصهيوني وسيظل يدفعها حتى ولو كانت مخفيّة أو غير منظورة بما فيه الكفاية، ولكن الوقائع أشياء عنيدة، ولا يمكن إخفاء الحقائق إلى الأبد، تشير الكثير من التقارير والتحليلات التي تحاول الخروج من الرؤية الضيقة وتحاول التقاط ما هو جوهري إليها، رغم محاولات التغطية والتشويه.
ومن هذه الأثمان، ثمة تآكل يتصاعد في صفوف جيش الاحتلال، وينطوي على تداعيات متنوعة، خاصة ما يتعلق منها بالرغبة في القتال. فوفقاً للمحلل العسكري لصحيفة، مكور ريشون، عمير ربابورت ، ثمة انخفاض في جهوزية العديد من القادة والضباط لاستمرار الخدمة في الجيش النظامي تحت وطأة نشاط العمليات العسكرية الذي لا تبدو أي نهاية له في الأفق. فلأول مرّة يخوض جيش الاحتلال حرباً طويلة الأمد، خلافاً لمبدأ أساسي في عقيدته الأمنية، يؤكد مضمونه بضرورة أن تكون حروبه قصيرة قدر الإمكان، حسب ما يؤكّده الكثير من الباحثين في الشؤون العسكرية للكيان، وقد اعتمد هذا المبدأ رئيس الحكومة الأول ديفيد بن غوريون، وكان تبريره حينها أنه ينبغي أخذ العامل الديمغرافي بالحسبان في أية معركة.
واليوم يجري الحديث عن النقص الشديد في القوات المقاتلة في جيش الاحتلال بشكل علني وتتم مناقشته في وسائل إعلامه المختلفة، خاصة بعد الخسائر البشرية الفادحة التي مُني بها وعدد الجرحى الكبير بين صفوفه، حيث أفادت إحدى الإحصائيات مؤخراً بأن هناك أكثر من عشرة آلاف مشوّه حرب جديد في صفوف الجيش منذ 7 أكتوبر الماضي.
ويجري الحديث عن «أزمة تنظيمية داخل الجيش» حسب ما وصفته بعص وسائل الإعلام في الكيان، وتظهر هذه الأزمة في قضية تجنيد المقاتلين، التي تتسبّب بدفع قادة عسكريين عديدين إلى تقديم طلبات إعفائهم من مناصبهم في أقرب فرصة ممكنة، وقد ازدادت مثل هذه الطلبات في الآونة الأخيرة مثلاً في «شعبة القوى البشرية».

«مؤشّر التفاؤل»

من جهة أخرى، يتغير المزاج العام في دولة الاحتلال، تعكس ذلك استطلاعات الرأي العام، وخاصة منها الاستطلاعات الدورية التي تجريها معاهد الأبحاث، والتي لا تحظى بعناوين بارزة في وسائل الإعلام على غرار استطلاعات الانتخابات. ومن هذه الاستطلاعات «مؤشّر التفاؤل» الذي يجريه المعهد «الإسرائيلي» للديمقراطية، حيث أظهر في شهر حزيران الماضي أن أقل من 30% من «الإسرائيليين» فقط متفائلون حيال أوضاع الأمن والديمقراطية في البلد.
وبحسب معدّة الاستطلاع، البروفيسور تمار هرمان، هذه النسبة هي الأكثر انخفاضا منذ بدء إعداد هذا المؤشّر عام 2018. وكانت نسبة المتفائلين في تشرين الثاني الفائت نحو 65%. وفي ذلك الوقت، أعربوا عن يقينهم بأن الحرب ستنتهي سريعاً بتحقيق جيش الاحتلال انتصاراً مطلقاً.
كما أظهرت استطلاعات أخرى أجراها كل من المعهد «الإسرائيلي» للديمقراطية ومعهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب أن 60% - 70% من المستوطنين يشعرون بمستوى من الأمن والأمان يتراوح بين المتوسط وأدنى من ذلك.
وفي استطلاع أجراه معهد أغام، برئاسة السيكولوجي السياسي، نمرود نير، من الجامعة «العبرية» بالقدس في نهاية أيار الماضي، تبيّن أن 10% من المستوطنين يدرسون فكرة الهجرة من الكيان إثر الحرب، وهناك 15% منهم يرغبون بالهجرة فعلاً، ولكن ليس في وسعهم تنفيذ رغبتهم.

سادية فاقعة

تشير الأرقام السابقة إلى درجة تأزّم الوضع في دولة الاحتلال وجيشها. ويكشف ارتفاع عدد المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين وشدة وحشيتها، محاولات قادة الكيان إخفاء أزماتهم الداخلية عبر التوحش وإطلاق يد الجيش والمقاتلين لارتكاب الجرائم المنافية لكل القيم، فحسب اعترافات ستة جنود «إسرائيليين» في شهادة أدلوا بها لموقع «سيحا مكوميت» العبري، عن تخفيف القيود، بل إزالة القيود على أوامر إطلاق النار، إذ منحت قيادة العدو أفراد جيشها الصلاحيات الكاملة لإطلاق النار في اتجاه أي هدف بشري يقع في مرمى أسلحتهم، سواء كان هذا السلاح بندقية خفيفة أو مدفع دبابة أو طائرة حربية أو مُسيّرة. وأورد الموقع العبري أن الجنود تلقّوا أوامر بإطلاق النار بشكل عشوائي على كل رجل يراوح عمره بين 16 و50 عاماً، إذ اعتبروا كل الرجال من تلك الفئة مقاومين. ويؤكد الجنود أن إطلاق النار يتم من دون سبب، ويقول أحدهم: «لقد سُمح بإطلاق النار على الجميع»، وأكد أن الجيش قام بعملية «تطهير» للمنطقة من العشرات من جثامين الشهداء الملقاة على جانبي الطرق، ثم قام بطمرها بالرمال بواسطة جرافة عسكرية، كي لا يشاهدها موظفو منظمات الإغاثة الدولية الذين يدخلون القطاع.
وتظهر المشاهد المصوّرة لجنود الاحتلال، والتي يزدحم بها تطبيق «تيك توك»، أجواء احتفالية ساخرة بينما يقوم الجنود بإطلاق الرصاص أو قذائف الدبابات أو هدم المنازل. ويصف جندي احتياط تلك المشاهد، والتي من بينها واحد لجندي يأكل شريحة من اللحم بينما يهدم منزلاً، بالقول إن «كثيراً من عمليات إطلاق الرصاص دافعها الملل، إذ من حق أي جندي أن يطلق الرصاص ثم يبلغ عن أن الأمر اعتيادي».

النشوة الكاذبة

وقد بدأت هتافات النصر على الفور بعد المجزرة التي قام بها جيش الاحتلال في مواصي خان يونس التي زعموا أنّها نُفّذت لاغتيال أحد قادة المقاومة، فلم يكن الغبار قد تلاشى بعد عن خيام النازحين المهدمة في المواصي حتى بدأت نشوة «النصر المطلق» في الأستوديوهات.
قام إعلام الاحتلال بعد عملية الاغتيال المزعومة مباشرة بوصفها أنّها «اللحظات الجميلة في الحياة»، تشير هذه «السعادة» إلى درجة عميقة من السادية والمرض النفسي في الكيان.
برر جيش الاحتلال قصفه للمنطقة بأنها «محاطة بالأسوار وحرجية»، وزعم أيضاً أنّ عشرات المخربين قُتلوا في هذه العملية، لكن الصور التي بُثت أمام العالم أظهرت خياماً مدمرة وأطفالاً يصرخون صرخات الموت. ليس ثمة غابات في غزة!؟ لكن النازحين وجدوا مأوى لهم بعد تهجيرهم من مناطقهم، فصوّب الطيارون ومشغّلو الطائرات المسيّرة الصواريخ القاتلة، وكانت النتيجة مذبحة. العشرات قتلوا، بينهم أطفال وطواقم إنقاذ من الدفاع المدني.
وقد تم نقل مئات المصابين إلى مستشفى ناصر شبه المدمر، الذي ظهر وكأنه مسلخ، على غطاء مقدمة السيارات والعربات التي تجرها البهائم الجائعة أو محمولين بين أذرع أقاربهم وأعزّائهم المذعورين، بينما كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، أن جيش الاحتلال استخدم في قصف المواصي، قبل أيام، 8 أطنان من القنابل.
لم تعد شهادات جيش الاحتلال الذي ينادي قادته بأنه «الأكثر أخلاقية في العالم» وإعلامه وقائعَ بحاجة إلى تحقيق. إذ تقوم المواقع الصهيونية بإيرادها من دون أن تتسبّب بأي نوع من الفضيحة. ليس ثمة تبرير لهذه الوحشية والإجرام، سوى الإفلاس ومحاولة التغطية على الهزيمة.
مرت عشرات السنوات على ما قاله غسان كنفاني أعلاه، لكنه ما زال يظهر توصيفاً عميقاً ودقيقاً لما يجري في غزة وفلسطين كلها اليوم. ويرجع ذلك ليس فقط لاستشرافه المبكر وتحليله العميق للحالة الفلسطينية وإيمانه بالنصر على عدو ناضل بالكلمة والجسد ضده وإنما بسبب ثقته بالشعب الفلسطيني وقواه الحية ومقاومته ورهانه عليها أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184