الفعل المقاوم كهوية جامعة

الفعل المقاوم كهوية جامعة

ثمة توصيف عميق وواضح لحال الفلسطيني اختزلتها كلمات قالها محمود درويش في قصيدة أهداها «ليدين من حجر وزعتر...»، فأحمد الذي كان يلتقي بنقيضه في كل شيء، يريد هوية فيصاب بالبركان، في سؤاله عن الحقيقة: «عشرين عاماً كان يسألْ..  عشرين عاماً كان يرحل..»!

عشرون عاماً، للمفارقة، مرت بين سقوط بغداد وذهولنا أمام الشاشات حينها، وبين طوفان الأقصى ومشاهد اختراق الطيور «الشراعية» لسياج الخوف التي أذهلتنا. عشرون عاماً حافلة بأحداث ضخمة زلزلت المنطقة، ولم تكن بمنأى عن محاولات المشروع الغربي الاستعماري، والأمريكي الصهيوني خصوصاً، لتدمير الهوية والبنية الاجتماعية وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع مصالحه أو بعثرتها وتركها للفوضى.

يختزل البعض فكرة المقاومة بالجغرافيا وجبهات التماس المباشر مع العدو، بينما هي بالحقيقة أكثر من ذلك بكثير، ولها أبعاد مختلفة، تظهر في أحدها كتجربة طويلة الأمد لبناء هوية جماعية. وكما يدرك المقاتل الذي يلاعب الموت رغم حبه للحياة ورغبته بها، من خلال تجربته أن فعله المقاوم ليس عصا سحرية يمكنها أن تفعل أي شيء، فثمة ما هو ممكن التحقق وثمة ما يحتاج وقتاً للنضج، لأن الإنجاز بحاجة إلى تراكم، يدرك العدو أيضاً أهمية البنية الاجتماعية الحاضنة للمقاومة ولذلك استهدفها بأكثر الوسائل والعمليات وحشيةً بغية تدميرها، أو على الأقل دفعها لليأس مما يسهل عليه فك الارتباط بينها وبين المقاومة، لكنه لم ينجح في مسعاه رغم القتل والدمار والإجرام، ذلك أن الذاكرة الجمعية الفلسطينية ربطت بين الأجيال المتعاقبة وبينهم وبين فلسطين كواقع ملموس وكفكرة أيضاً.

يؤكد الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي على: «إن إجماع الناس على هدف أو عقيدة أو سردية أو فكرة ما، قد يحل محل القيادة المركزية لهم، فتملي الفكرة تصرفهم بدلاً من أن يأمرهم بذلك قائد أو تنظيم». يملك الفلسطينيون من الأسباب ما يجعلهم مجمعين على هدف واحد فكلهم جرحهم الاحتلال ووحدهم في مواجهته. كلهم سُلبت أرضهم وتهدمت بيوتهم وفقدوا أحباء لهم وهُجّروا من أرضهم قسراً ليصبحوا مشردين في أقاصي الأرض وو.. والكثير الذي يمكن أن يملأ كتباً في حال تدوينه.

تملي الفكرة هنا على الناس الفعل بكل تفاصيله الدقيقة، وتوحدهم أمام الأكاذيب والسرديات الصهيونية المختلقة، هي فكرة واضحة ومجمع عليها ولذلك يتحلون بالصبر ويصمدون أمام الموت متعدد الأشكال.  يفعلون ذلك بقناعة تامة وإدراك عميق بأنه لا سبيل آخر أمامهم سوى الالتفاف حول المقاومة.

أوهام المصالح الخاصة

إن الإجماع في أحد أشكاله يعني حشد الناس وذلك يغني عن السلاح في كثير من الأحيان، فينتصر المجمعون المقتنعون العزل المتطوعون على الجنود المسلحين المأمورين الطائعين لقادتهم.
أما إذا انفرط الإجماع وانقسم الناس فيما بينهم واختلفوا، تقل أعدادهم ويجري الاستفراد بأقسامهم المتصارعة، وقد يلجأ بعضهم إلى السلاح فيصبح رهينة من يزوده بالسلاح. لذلك واظب الكيان الصهيوني منذ نشأته على تكريس الانقسامات وإدامتها ضمن ممارسته لدوره الوظيفي، انقسامات في الصف الفلسطيني من جهة، وفي صف وسطها المحيط، والعالمي من جهة أخرى، ومحاولات دائمة لتفكيك جبهات المقاومة ومشروعها، والتعاطي مع كل جبهة على حدة.

لم تُنتج الاستجابة لمنطق التجزئة والانقسام بدعوى البحث عن «المصالح الخاصة»، سواء للأفراد أو التنظيمات، إلا الخيبات المتكررة، ولم تصنع سوى الفشل داخلياً وخارجياً، ولم ينتج عنها سوى الضعف في الدور والحضور، وفشل سياسي واقتصادي... إلخ. لذلك سعى الأمريكيون والصهاينة إلى عزل الساحات، ليواصلوا هجومهم عليها، كلّ على حدة، بجميع الوسائل دون تفريق بينها، ضمْن جبهةٍ واحدة.

العصا والجزرة

لكن ما حصل بعد «طوفان الأقصى» بعثر الأوراق الأمريكية وأوراق دولة الاحتلال على حد سواء. فقد كان تضامن الساحات هو أساس عمل قوى المقاومة، فحتى إذا لم تُفتح الجبهات بشكل مباشر، خاصة في بداية الحرب، إلا أن التعاون اللوجستي والمعلوماتي والإعلامي ظل قائماً من جهة، وأشعلت هذه الحرب ساحة التضامن العالمي غير المسبوق لقضية الشعب الفلسطيني، وطوّرته ليصبح إحدى أهم الجبهات وأجبرت الكيان الصهيوني على التعامل معه، بعد أن شكل ضغطاً هائلاً عليه وعلى داعميه من جهة ثانية. إضافة إلى جبهات أخرى فُتحتْ مِن دون تماسٍّ حدودي مباشر مع الاحتلال، كل ذلك دفع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إلى استخدام العصا والجزرة مع القوى الفاعلة في هذه الجبهات من أجل تفكيكها وتفريغ جيش الاحتلال لإنهاء مهمته في القضاء على المقاومة في غزة.

الوحشية لا تصنع نصراً

وصفت الحرب في غزة بأنها من أكثر الحروب دموية وتدميراً في التاريخ، ولكن هذه الحرب لم تخلِّف القتل والدمار فقط، بل ضربت أروع الأمثلة في الصمود والصبر والبطولة المذهلة التي عرفتها البشرية، وأظهرت تضحيات الغزيين للعالم أهمية وجود مقاومتهم في سبيل استعادة أرضهم وحريتهم.

يضج الإعلام الصهيوني أمام الوقائع الحقيقية، بموجة من الإحباط، ويشتكي من طول مدة الحرب وتعذّر تحقيق الأهداف المعلنة للاحتلال. فقد نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن زعيم حزب «يسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، قوله: «نحن نخسر الحرب. والردع الإسرائيلي تراجع إلى الصفر»، فيما أفردت مواقع صهيونية أخرى مساحة مطولة للحديث عن حالة الإحباط التي يعيشها جنود الاحتلال الذين يخدمون في جبهات القتال، ومن تكرّر دخول المناطق ذاتها التي أُعلن «تطهيرها» مرة تلو أخرى.

عصر جديد اسمه الطوفان

يفرض «عصر الطوفان» على القوى السياسية والاجتماعية الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة فاعلة وتتطلب إعادة التفكير بالعديد من القضايا الجوهرية والأساسية في مفهوم الهوية. تكمن أهمّية هذه العملية في كون «الطوفان» جزءاً من مرحلة تحوّل كبرى في العالم أجمع من ناحية، وتحول هام في بنية المجتمعات المحلية من ناحية أخرى.
ثمة علاقة وثيقة بين الهوية الوطنية والعمليات الثورية الهامة «كطوفان الأقصى». وليس هناك طريق أمام القوى الوطنية سوى حشد أوسع إجماع شعبي، في زمن التحولات الكبرى، من خلال عملية تكثيف خطاب وطني متصل بالسياقات التاريخية وخصوصيتها، بحيث تترسّخ ثقة ورابطة شعبية أكبر بين الهوية والمقاومة لدى الجميع على مختلف الخلفيات.
 يجيب الفلسطيني اليوم عن السؤال الوجودي الذي كان يطرحه أكثر من عشرين عاماً على لسان محمود درويش: «عشرين عاماً كان يسألْ.. عشرين عاماً كان يرحل.. أنا أحمد العربيّ قالَ.. أنا الرصاصُ البرتقالُ الذكرياتُ، وأنا البلاد وقد أتَتْ وتقمّصتني... وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1182
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2024 18:30