معركة غزة والخلاص البشري

معركة غزة والخلاص البشري

ثمة لحظات وأحداث فارقة في التاريخ، تُكسَر فيها كثير من «المسلّمات» المستمرة لسنوات عديدة، وتُحفز وتستقطب فئات وشرائح واسعة من المجتمع، تستعيد ثقتها بقدرتها على الانتظام والعمل بصورة جماعية. يمكن اعتبار طوفان السابع من أكتوبر/ تشرين الماضي، حدثاً نوعياً ولحظة مدروسة شاركت في إعادة تشكيل الوعي، وتغيير المفاهيم والحقائق وإعادة بناءها من جديد.

يتابع العالم أجمع تداعيات ما يحدث في غزة والشرق الأوسط عموماً. فمنذ نيسان الماضي اجتاحت الاحتجاجات الطلابية الجامعات الأمريكية، وتطورت أحداثها واتسعت لتشمل جامعات أخرى في دول متعددة خاصة في أوروبا، احتجاجات ضد الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في فلسطين وغزة. يطالب المحتجون طلاباً وطالبات وأساتذة إدارة الجامعات بوقف تعاونها الأكاديمي مع الكيان، وبسحب استثمارات جامعاتهم من الشركات الداعمة للاحتلال وتسليح جيشه.
جددت الاحتجاجات الجدل حول سبب اختيار الطلاب القضية الفلسطينية والعدوان على غزّة قضية مُحفّزة لهم، يُرجع الإعلام ومعه كثيرون السبب إلى الصور المروّعة للموت بشتى الأشكال على يد حليف الولايات المتحدة. وهذا صحيح إلى حد ما، ولكنه ليس السبب الوحيد؟

فلسطين تغربل العالم

«كل شيء بدأ عام 1948»، لم تكن مجرد صدفة انتشار صورة الشاحنة التي ترفع علم فلسطين في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، وبجانبه هذه العبارة كُتبت بخط عريض.
ثمة وعي جديد يتشكل ويتعمق، سواء في المركز الإمبريالي أو في الأطراف. ثمة إدراك للتأزم الحاصل في المنظومة القائمة، وفهم للعلاقات والروابط التي تحكمها.
تعددت الأزمات والتوترات داخل منظومة الإمبريالية العالمية التي تعاني من تشوهات ذاتية وموضوعية مختلفة، أدت إلى تقلبات داخلية حادة فيها، وولّدت بمرور الوقت أشكالاً من الإحباط السياسي، مما جعل تناقضاتها تخرج إلى العلن، وتتمظهر في أزمة هوية وأزمة دور.
عبّر النزوع الإمبراطوري الأمريكي عن نفسه بالعسكرة والهوس المزمن بالحروب، ومن ناحية أخرى استخدم أدوات سيطرة متنوعة من أدوات الإخضاع السياسي بهدف التحكم الداخلي، وضبط ردود الأفعال على المدى القريب والمتوسط. تغذي المفاهيم النيوليبرالية التراتبية الهرمية القائمة على تعزيز الفردانية بشكل يصبح معه وكأن خلاص الذات يكون من خلال الاجتهاد والتحصيل والشهادة مما يخلق «فرداً» منزوع الانتماء الجمعي والإنساني، وتعزّز هويته الفردية وتجعل من الخلاص الفردي معياراً أساسياً للنجاح والاستمرار.
عزز مفهوم التنافس والفردانية الصراعات الداخليّة التي يعيشها الإنسان والمشاكل والأمراض الناتجة عنها، كالاكتئاب والعزلة والحصر والاغتراب.. الخ. بينما جرى تهميش الهوية الجماعية، واختصارها في أشكال محددة يمكن التحكم بها، مثل: الأندية الرياضية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الترفيه...الخ.

تمييع الهوية!!

في قطاع التعليم ومع انسحاب الدولة بشكل تدريجي من توفير الخدمات المطلوبة والأساسية لجهاز التعليم، والعمل وفق قوانين الربح والخسارة وربط التعليم بالاستثمارات الخاصة، كان للوبيات الصهيونية العالمية تأثيرات كبيرة ونشطة على قطاع التعليم، بما يمتلكونه من عضويات نشطة، وقدرة على التأثير في دوائر النفوذ السياسية والإعلامية والثقافية.
إضافة إلى أساليب بسط السيطرة والرقابة المباشرة، جرى استخدام أسلوب «تمييع الهوية» حيث وُضع جهاز التعليم في مجال تنافسي فرداني مقطوع عن أي أفق جمعي، بحيث يقتصر هدف الطالب على النجاح لأجل الالتحاق بالأكاديميات والانخراط في سوق العمل. يوضع فيه كل الثقل على التنافس ويتم التعامل مع الطالب كرقم، أي أنّ الرقم الذي يجلبه (العلامة) هو المفتاح للنجاح وللخلاص الذاتي في سوق العمل، وكأنه غير مرتبط بجماعة ودون أيّة علاقة بهويته الجمعية وخصوصيته الثقافية الإنسانية.
تتواصل الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين رغم القمع، ورغم استعانة بعض الجامعات بقوات الأمن واعتقال المحتجين، وتتسع رقعتها، فالإقدام مُعدّ كالإحجام إذا أحس الناس بجدواه، وجدواه تزداد كل يوم، إذ أثارت معركة غزة تساؤلات حول العلاقات الإنسانية وانكساراتها، أمام جبروت المنظومة القائمة والمستمرة في اضطهاد الإنسان ودور الاقتصاد في صناعة المواقف المختلفة. وأعاد النظر في معانٍ كثيرة، كما حمل أسئلة حول المصير الجماعي للبشر.

«هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟»

أراد الكيان الصهيوني لعدوانه على غزة أن يكون نكبة جديدة للفلسطينيين، أو كما وصفها قادته، «حرب استقلال ثانية» أو «حرب وجود»، كان المطلوب ليس تصفية الأداة العسكرية للمقاومة فقط، بل الإطاحة بكل ما هو لصيق بها، ابتداء من الفكرة والشعار إلى القيادات السياسية والميدانية، وحتى الفرق الإغاثية، مستخدماً أشد أشكال العنف وأفظعها، ورغم أن «كلّ ما في الأرض من فلسفةٍ، لا يُعزّي فاقِدًا عمّنْ فقدْ» كما يقول الشاعر إيليا أبو ماضي، إلا أن صمود الشعب الفلسطيني واستبساله استطاع تبديد أوهام كثيرة وإلى الأبد.
ففي مقابل رواية الاحتلال وداعميه، والتي تحاول إقناع العالم أن العدوان الهمجي ليس سوى ردة فعل على عملية «طوفان الأقصى»، قدّمت المقاومة روايتها من خلال مذكّرة أصدرتها بعنوان: «هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟» شرحت فيها خلفيات إقدامها على هجومها العظيم في 7 أكتوبر/تشرين.
وعادت المذكّرة إلى تاريخ فلسطين المحتلة، مبيّنةً أنّ معركة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال لم تبدأ في 7 تشرين الأول، بل «قبل ذلك بـ 105 أعوام». مشيرة إلى أنّ الشعب الفلسطيني عاش 30 عاماً تحت الاستعمار البريطاني، و75 عاماً من الاحتلال «الإسرائيلي» بينما عانى قطاع غزة من حصار خانق منذ أكثر من 17 عاماً، ليتحوّل إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، و5 حروب مدمّرة، كان الكيان الصهيوني هو البادئ فيها في كل مرة.
ودعت إلى «معاقبة الاحتلال الإسرائيلي قانونياً على احتلاله، وكل ما ترتّب على ذلك من معاناة وضحايا وخسائر»، و«دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بكل السبل المتاحة، باعتبارها حقاً مشروعاً».
لقد اعتقد البعض، بأن المقاومة أقدمت على فعل كبير يصعب على العالم هضمه، لكن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال لا يمكن هضمها. ولذلك فإن استراتيجيته القائمة على أنه ضحية اعتداء ويجب مراعاته وتحقيق أمنه لم تعد كما كانت سابقاً.
انتقل الفلسطينيون من حالة الدفاع الدائم إلى الهجوم العاقل. هجوم يستند ليس فقط إلى حجم جريمة العدو، بل إلى قدرة المقاومة على الصمود. ولأول مرة يشعر المقاومون، وقيادتهم السياسية والشعب الفلسطيني خلفهم، أنهم ليسوا وحدهم في المعركة. فإلى جانب جبهات الإسناد العسكرية، حدث تغير واضح في رؤية العالم لقضيتهم وعدالتها.

الخلاص إنساني فقط!

تقتضي الطبيعة البشرية من الناس الدفاع عن أنفسهم في وجه الخطر، وقد بدأ الناس بإدراك حجم المسؤولية المنطلقة من المصلحة المشتركة والهوية الجمعية والمصير الواحد، ولذلك يكون دفاعهم عن غزة ومساندتها، دفاعاً عن أنفسهم. فالواقع يقول: إن مصير الخاذل سيكون أسوأ من مصير المخذول، لذلك لم يعد أمام الإنسان اليوم سوى أن يفكر في الخلاص الإنساني ككل واحد، وفي الواقع، فإن هذا ليس خياراً نمتلكه بحيث يستطيع المرء التحلل منه أو الفكاك عنه، إنها قضية وجود ومصير مشترك تثير حس التعاضد الإنساني، وتقتضي من الناس أن يكونوا في مستوى اللحظة التاريخية، وما تطرحه من تحديات جسيمة وخطيرة، ومن فرص عظيمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1177