د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
منذ نحو العقدين من الزمن، وتحديداً منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، بدأ ينضج عالمياً خطابٌ يمكن تسميته بالتاريخي، حملتْه أطرٌ وأصوات ومنصات في العالَم، وكانت وما زالت «قاسيون» واحدة منها. وفي الخطاب هناك ولادة للجديد وموت للقديم. واليوم أكثر من البارحة، وغداً أكثر من اليوم، نقترب من تلمّس جوهر هذا الخطاب وتحوُّله إلى ملموسٍ سياسيّ ويوميّ، ومنه خاصّة «نقرأ كفّ» القوى و«مَن هُزِم ومَن انتَصر».
ليست الأحداث الأخيرة في سورية تعبيراً عن موجة من محاولة التوتير الطائفي والديني فقط، بل هي أيضاً وبفعل تلك الموجة تعبيرٌ عن تمرينٍ أوّلي للمشاركة الشعبية في الحكم في لحظة التوازن النسبي، بل انطلاقٌ عمليّ لـ«الحوار» وتشكُّلُ نواته القاعدية.
مع انفتاح المجال السياسي واللَّجم النسبي للسلاح والقمع المباشر فإن وزن الصراع الفكري والمعركة على الوعي ستزداد من أجل التعويض (غير المباشر) للقمع واللّجم السابق ذاته لأيِّ تحوُّلٍ حقيقي نحو التغيير. ولهذا فإنّ قوى النظام القديم ومن خلفِها قوى العالَم القديم وعلاقاته ضمن كل دولة غربية كانت أو إقليمية، ستتلوّن بلباس التغيير أو تتأقلم مع الواقع الجديد ولكن عبثاً تتخلّص من تناقضها كاشفةً تموضعها ضدَّ العالَم الجديد.
في التعامل مع قلق المرحلة ولا يقينها، ومع غياب التطّور الخطّي الصاعد للتاريخ وما يخلقه من شعور بالهزيمة والإحباط والانتكاسة، من المفيد والضروري تكرار، لا بل توسيع حيّز، الكلام عن الجديد في هُويّة المرحلة على مستوى ولادة عقلٍ وإنسانٍ جديد متناسب مع مهامها، يقطع بشكل مؤلمٍ مع عقل الاغتراب المستهلِك لواقعِه والمنتظِر لمسارات التطوّر «الخارجية»، المُنتِج لدوره الاجتماعي-السياسي الساكن.
حتى هذه الساعة ما تزال الأحداث تتطوّر بشكل سريع، ويبدو أنّ ظاهرة تسارع التاريخ المتكثّف والمضغوط في أيّام والتي أشار إليها لينين صارَتْ هي، كما ظواهر أخرى، من الملامح الثابتة للمرحلة التاريخية الراهنة كمؤشّر على حاجة وعمق وشموليّة الانتقال. وفي هذا التسارع تطلُّ الحاجة الملحّة للعقل السياسي «من تحت» لكونها مرحلة لم تعد تكفي «إدارتها من فوق».
خلال مسار الحرب القائمة في المنطقة والعالَم، تظهر واضحةً الحاجةُ إلى الارتقاء بمستوى الوعي السياسي للقوى السياسية التي تحاول الفعل، ومعها القوى الاجتماعية بالمعنى الواسع، لتلامس ضرورة المرحلة وقانونَها الداخلي. هذا الارتقاء ليس ترفاً بل مرتبطٌ بالمجهود الحربي بالمعنى المباشر وبتطوير الهجوم، ولاحقاً الترتيب السياسي كتظهيرٍ للكامن في أسباب الحرب نفسها.
الحرب الإعلامية في الحرب القائمة تكاد تتجاوز في وزنها السلاح والمتفجرات وباقي مستويات الحرب العسكرية، من أجل تحوير الواقع والتلاعب النفسي والسياسي حالياً ولاحقاً، وهي حرب الوعي التي تتعاظم مع تعاظم غنى المرحلة ومضامينها، وتفكيكُ مقولاتها جزءٌ لا يتجزّأ من الحرب وتطوير الهجوم فيها، والمواجهة خلف خطوط دفاعنا (وهجومنا) وخنادقنا الخلفية.
ما نشهده اليوم هو أبعد من مجرَّد لحظةِ فهمٍ لمرحلةٍ محدَّدة ومحدودة، بل إعادةُ تكوينٍ للوعي الذي تمّتْ صناعتُه طوال العقود الماضية، للوعي المختطَف، المستلَب والمغترِب عن الواقع والتاريخ، الذي هو تاريخُ حربٍ منذ تشكّل المجتمع الطبقي حتى يومنا هذا، وما لحظاتُ «السلام» فيه إلّا مراحل مؤقَّتة نتيجة القتال نفسه. فالسّلام كان يصنع بالقتال/الحرب، هكذا هي جدليَّتُه.
في موادَّ سابقة أشرنا إلى تشكل مزاج عام يتجاوز فضاء النقاش السياسي التخصّصي ليطال المجتمع ككل، حول سؤال «متى تنتهي الحرب؟»، ومعه نضجت بعض المقولات في محاولة الإجابة وتحديداً في كونها «حرباً طويلة أو مفتوحة». ولكن سؤال محاولة المعرفة يستدعي الطرف الآخر أيْ سؤال الممارسة. على هذا المحور ينضج جوهر المرحلة التاريخية الراهنة ككل. هنا بعض التوسع في ذلك.
في المادة السابقة أشرنا إلى أنّ موجة عامة من «التساؤل» حول سؤال «ماذا بعد؟» بدأت تكبر على وقع الحرب التي بدأت تتكشف أنها «مفتوحة»، لا في منطقتنا فقط، بل في مختلف أماكن الصراع التي فُتِحت فيها جبهات عسكرية في السنين الماضية. هذه المادة تستكمل بعض المعاني السياسية التاريخية لهذه الموجة التي تتمحور حول التناقض في مجتمع الانقسام الطبقي ككل، وفي جوهره تجاوزُ الاغتراب.