د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مجدداً، التناقض في الرأسمالية يفرض نفسه على جميع الدول، ليس كمنظومة نهب دولية فقط، بل كنظام إنتاج وتبادل ونمط حياة داخل كل دولة. وأحد عناصر هذا التناقض هو التطور التكنولوجي الذكي، ليس بمعناه الاقتصادي فقط، بل الثقافي والعقلي أيضاً، الذي يحتل حيزاً كبيراً اليوم.
إلى جانب الإجراءات الاقتصادية «الحمائية» التي يقوم بها ترامب وما تعنيه من عمق في الأزمة الاقتصادية الداخلية في بنية العولمة بصيغتها الإمبريالية، وتعبير عن تراجع الهيمنة الغربية ضمن العولمة، فإنّ هناك معانيَ تطالُ مجمل المرحلة النيوليبرالية وكل بنيتها الفوقية، ومنها موقع الأكاديميا في منظومة الهيمنة.
النقاش حول الإحباط والتشاؤم من جهة، والتفاؤل من جهة أخرى، الذي تتصاعد مركزيّتُه في المرحلة الحالية بشكل خاص، يحملُ ضمناً تصوّرَين سياسيَّين نقيضَين، لكون التشاؤم والتفاؤل يعبِّران عن الحالة الشعورية-الذهنية لنظرتَين متناقضتَين عن العالم. وفي قلب هذا النقاش هناك مسألةٌ جوهرية هي الحاجة للسياق التاريخي كأداةٍ ذهنية نحو الواقعية.
لأن المرحلة الراهنة هي مرحلة نوعية في التاريخ لها عقلها الجديد وبالتالي لغتها، ولأنها أيضاً وبسببٍ من خصوصيتها التاريخية هي تعبيرٌ عن تعاظم دور الوعي والصراع عليه، فإنّ تتبّع تطوّر لسان حال القوى المختلفة ضروريّ، ويسمح بالكشف عن تمظهر الضرورة التاريخية وتسارعها.
مع انتقال الأزمة في نظام الهيمنة الإمبريالية إلى طور التهديد الشامل للوجود البشري والحياة على الكوكب، فإنّ كل إحداثيات السياسة انتقلت إلى فضاء جديد، وهنا يجب التنبيه مجدداً إلى خطر الاحتفاظ بإحداثيات «محافظة» تنتمي للفضاء السابق على عمليات الوحدة في مواجهة التهديد البربري.
بعد انفتاح أفق العمل السياسي في المجتمع السوري، من الضروري إعادة تأكيد بعض الإحداثيات العامة، كمساهمة في محاولات حماية الحركة الشعبية، وتطويرها سياسياً، وتحقيق غاياتها، التي هي غايات كل حركة شعبية حول العالم، مع اختلاف خصوصيات كل مجتمع، نحو تجاوز نظام قهر الإنسان وسلبه إنسانيته، وفتح أفق تحقيقه لذاته، ماديّاً وروحياً.
منذ نحو العقدين من الزمن، وتحديداً منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، بدأ ينضج عالمياً خطابٌ يمكن تسميته بالتاريخي، حملتْه أطرٌ وأصوات ومنصات في العالَم، وكانت وما زالت «قاسيون» واحدة منها. وفي الخطاب هناك ولادة للجديد وموت للقديم. واليوم أكثر من البارحة، وغداً أكثر من اليوم، نقترب من تلمّس جوهر هذا الخطاب وتحوُّله إلى ملموسٍ سياسيّ ويوميّ، ومنه خاصّة «نقرأ كفّ» القوى و«مَن هُزِم ومَن انتَصر».
ليست الأحداث الأخيرة في سورية تعبيراً عن موجة من محاولة التوتير الطائفي والديني فقط، بل هي أيضاً وبفعل تلك الموجة تعبيرٌ عن تمرينٍ أوّلي للمشاركة الشعبية في الحكم في لحظة التوازن النسبي، بل انطلاقٌ عمليّ لـ«الحوار» وتشكُّلُ نواته القاعدية.
مع انفتاح المجال السياسي واللَّجم النسبي للسلاح والقمع المباشر فإن وزن الصراع الفكري والمعركة على الوعي ستزداد من أجل التعويض (غير المباشر) للقمع واللّجم السابق ذاته لأيِّ تحوُّلٍ حقيقي نحو التغيير. ولهذا فإنّ قوى النظام القديم ومن خلفِها قوى العالَم القديم وعلاقاته ضمن كل دولة غربية كانت أو إقليمية، ستتلوّن بلباس التغيير أو تتأقلم مع الواقع الجديد ولكن عبثاً تتخلّص من تناقضها كاشفةً تموضعها ضدَّ العالَم الجديد.
في التعامل مع قلق المرحلة ولا يقينها، ومع غياب التطّور الخطّي الصاعد للتاريخ وما يخلقه من شعور بالهزيمة والإحباط والانتكاسة، من المفيد والضروري تكرار، لا بل توسيع حيّز، الكلام عن الجديد في هُويّة المرحلة على مستوى ولادة عقلٍ وإنسانٍ جديد متناسب مع مهامها، يقطع بشكل مؤلمٍ مع عقل الاغتراب المستهلِك لواقعِه والمنتظِر لمسارات التطوّر «الخارجية»، المُنتِج لدوره الاجتماعي-السياسي الساكن.