ضيق الهوامش والصراع الفكري: شِعرُ الأوقات الحالكة
قد يعاند العقلُ في قلب نار الحرب الميلَ نحو القراءة والكتابة تجاه ما قد يراه «الحاجة للفعل المباشر»، وكيف إذا كانت من أنواع الحروب على حافة الهاوية. ولكن في قصيدة «أغنيات للعتمة» يقول الشاعر والمسرحي الماركسي برتولد بريخت: «هل هناك شعر في الأوقات الحالكة؟ نعم هناك شعر عن الأوقات الحالكة». إذا كان هناك شعر عن الأوقات الحالكة، فكيف بالكتابة السياسية عنها وعن آفاقها، وهي الأغنى لأنها الأخطر. هذا هو تناقضها المتعب.
التاريخ يعوّض «القوة المطلقة» للهيمنة الهجينة
إن الرأسمالية وصيغتها الإمبريالية في نموذجها الهجين للهيمنة تمكنت من إغراق الوعي، وذلك من خلال جهاز الدعاية والإعلام فائق التأثير - كالأصوات «العلمية» من خبراء وعلماء، والفنانين والأدباء، والصحافة والنشر، ولاحقاً السينما والتلفزيون والإنترنت والهاتف المحمول. واستخدمت في هذا الإغراق للوعي أدوات التغطية اللحظية وشديدة التنوع في طبيعة المادة المنشورة، ما جعل كسر الهيمنة على الوعي مهمة صعبة وشبه مستحيلة. إلا أن التاريخ يقوم بالتعويض، فالتسارع الشديد في الأحداث وطبيعتها وضيق الهوامش يعمل ضد تلك الهيمنة شيئاً فشيئاً. أما المطلوب فهو ملء الفراغ.
صورة العالم في الفلسفة
إن الهيمنة على الوعي متعددة الأبعاد، فهي تفرض صورة محددة عن العالم تتنوع أشكالها من الفلسفي إلى العلمي إلى اليومي. فالمستوى الفلسفي من الصورة عن العالم له طابع أكثر ديمومة كونه لا يرتبط بشكل مباشر بالحدث، مع أنه يعكسه. ولهذا، مثلاً، عاشت المقولات الليبرالية الفردانية الفلسفية عدة عقود، وتحديداً منذ الحرب العالمية الثانية ونموذج «دولة الرفاه». هذه الصورة الفلسفية الليبرالية الفردانية عن العالم، في تشكيلها قاعدة الخطاب والرؤية والممارسات، كانت معبِّراً في مجال الوعي عن الاقتصاد الليبرالي المُلجَم ضمن ضوابط معينة لضرورة التعايش مع القوى الاشتراكية الصاعدة. تلك الضرورة تحولت لاحقاً إلى نسخة أكثر تطرفاً من الفردانية والتقليل الشديد من وزن المجتمع مع النموذج النيوليبرالي الذي تقدم بعد تراجع الخصم الاشتراكي الذي كان يتعايش معه. وسادت مكان الليبرالية الفردانية مقولات عن التقدم الفردي وتحقيق الذات، وتحديداً منذ انفجار الأزمة المالية وتعاظم تناقضات الاقتصاد الرأسمالي، فسادت صورة فلسفية مختلفة عن العالم لها ملامح عدمية، كالهروب من الواقع وإنكاره، وإنكار العقل والنفس الإنسانية. هذه الصورة عن العالم هي المكافئ الفلسفي لمرحلة الأزمة العميقة وانغلاق الأفق أمام المجتمع الذي يقوم على انقسام الفرد والمجتمع، والمؤسس للانقسام الداخلي للإنسان، أي للمجتمع الطبقي كما ساد طوال آلاف السنين. إذاً، الهيمنة الفكرية لليبرالية فلسفياً جرى تقويضها من خلال الأزمة نفسها، فالواقع اليوم لا يقبل أي مقولة حول التطور والنجاح والسعادة والاستقرار، بل هو واقع انهيارات وحرب وهجرة ونزوح وشح مالي ولا يقين اقتصادي. ونحن اليوم أمام ضرورة صورة فلسفية نقيضة لملء الفراغ الناشئ بما يكثف ويتجاوز كل التيارات العالمية التي تظهر كردة فعل (تيارات القيم التقليدية والتراث والحب وتقدير البيئة) على هذه الصورة العدمية واللاعقلانية المتطرفة. ردات فعل أحياناً عاجزة، ما يعطي هذه التيارات صبغة رومانسية حتى وإن كانت ردات الفعل تلك سياسية شكلاً، فهي في جوهرها رومانسية لا سياسية فاعلة، بل استعادة لأمجاد «ثورية» سابقة (وهذا ما يظهر بشكل كبير في الخطاب اليومي في طغيان الحالة الشاعرية والرومانسية لدى الكثير من بقايا القوى السياسية والحالة الاجتماعية عامة). وهذه الصورة الفلسفية عن العالم كان لها ثقل كبير في المجال السياسي، خصوصاً في تأسيسها لموقع العالم الغربي كنموذج وحيد عن الحياة. التاريخ إذاً يعوّض موضوعياً عن هيمنة العالم الطبقي في مجال الوعي.
صورة العالم في العلم
أما على المستوى العلمي في مجال الدعاية والهيمنة على الوعي، فإن الصورة الليبرالية عن العالم عاشت أيضاً عقوداً، وإن كانت أقل من الصورة الفلسفية، لكون العلم على تماس أكبر مع المعطيات الحياتية المباشرة، وبالتالي فإن مقولاته تجري محاكمتها بمواد واقعية كثيرة. فالعلم الليبرالي عن الإنسان والمجتمع بدأ يعاني مبكراً جداً، فالانتقال من تيار التنمية الذاتية نحو تيار «الرهبنة» وكل ما ينضوي تحت «علم النفس الإيجابي» والهروب من الواقع غير القابل للتغيير. تيار «الإيجابية» الغارق في حدود الذات والهارب من المجتمع يتلاقى مع انتعاش التيار الرِّواقي في الدعاية الفلسفية عالمياً. والرِّواقية مذهبٌ فلسفي قديم أسسه زينون في «الرِّواق المطلي» بأثينا عام 300 ق.م. وما أكثر المواد المكتوبة حول الرواقية مؤخراً، والرواقية في كونها «فناً للعيش السعيد» هي فلسفة الاكتفاء أو إنكار الحاجات والترفع عنها والبعد عن «السلبية والصراع». مثالاً على ذلك العنوان الآتي: «لن تغضب أو تنزعج مجدداً بعد أن تفهم هذه الفكرة»، وما شابه ذلك من ملايين المواد على الشبكة. هذا الانتقال لم يأخذ سنوات طويلة، فالتيار «الإيجابي» يجري استبداله اليوم بتيار غيبي ضمن العلم نفسه. هذا الانتقال هو تعطيل لدور العلم نفسه في التقائه مع التحول الذي ذكرناه في الفلسفة نحو العدمية واللاعقلانية، فالعلم المهيمن يرث الفلسفة المهيمنة ويعبر عنها. ولهذا، مثلاً، نجد اليوم تيارات «علمية» تتساءل حول وجود العقل أصلاً، أو وجود الواقع من الأساس. في العلم أيضاً جرى تعطيل لصورة العالم التي تحاول تبرير الواقع المنقسم في المجتمع الطبقي الذي وصل اليوم إلى وضوحه في تجرده من خلال انقسام فرد-مجتمع، حيث إن مرحلة الليبرالية سمحت بتوسع مساحة الفرد في التاريخ، ما سمح للتناقض فرد-مجتمع، وفرد-فرد، بالتطور إلى حدوده التاريخية. وهو ما حوّل الاغتراب من مقولة فلسفية إلى حالةٍ مَعيشة. وللعلم الليبرالي أثر ووزن في الصراع والعقل السياسي من خلال ما يصدره من مقولات «علمية» للاستهلاك الشعبي وحتى «النخبوي»، كالأبحاث حول دور الإبداع الفردي على قاعدة «الحرية الليبرالية» لمواجهة النموذج السوفياتي غير الفرداني الذي «خنق الإبداع»، والأبحاث حول شعوب العالم التابع، لخدمة مقولات الفردانية على حساب الجمعية (الجمعنة). بشكل عام، هذا التخادم بين العلم والفلسفة هو بدوره يتعطّل في مواجهة الوقائع المتراكمة والشديدة الحدة. ولهذا، مثلاً، وبشكل خاص في الغرب، يظهر ما يسمى بأبحاث «التحويل» (Transformation) كصيغة اختزالية لمفهوم التغيير، والتي هي أكثر «ثورية» من أبحاث «الاستدامة» كنموذج علمي للتيار الإصلاحي ضمن العلم والتي سادت خلال عقود الأزمة الأقل انفجاراً، وهو ما نراه في أدبيات الأمم المتحدة مثلاً عن «التنمية المستدامة». وهذا دليل على أن العلم، وإن أراد أن يكون موجوداً في غير الصيغة الغيبية التي ذكرناها، يتلوّن بلون السياسة المباشرة دون المساس بجوهر المجتمع الطبقي. وهذا تحدٍّ يتعاظم مع تصاعد قوة دور العلم والإنجازات العلمية في مجتمعات «الأطراف» الصاعدة وكل إحداثياتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. بكلمة؛ الواقع أيضاً يكسر الهيمنة في مجال العلم، كما في الفلسفة، ولكن يبقى السؤال: من يهجم على هذه الجبهة لملء الفراغ؟ فالفلسفة والعلم يتلوّنان بقوة بالسياسة الصريح، كون صورة العالم، كنظام اجتماعي-اقتصادي، والمتضمنة فيهما (والتي عادة ما تكون خفية)، تكشف عن نفسها أكثر فأكثر. هنا أيضاً التاريخ يعوّض من خلال تعطيل الهيمنة في مجال الوعي.
صورة العالم في اليومي-السياسي
الحرب تأتي لتثأر من الهيمنة في مجال الوعي، وبشكل خاص ضمن الوعي اليومي والسياسي. فنحن اليوم لسنا فقط أمام تعطّل الصورة الفلسفية والعلمية المهيمنة، بل أيضاً أمام تعطّل سردية سياسية سادت طوال عقود حول الصراع في إحداثياته اليومية، وخصوصاً التناقض الرئيسي الذي يحكم كل المشهد بين الإمبريالية وبين قطب الشعوب ومعه كل منجزات القرن الماضي من دول ومؤسسات تشكلت ضد رأس المال العالمي. فالانقسام الذي يجري الحفاظ عليه في الفلسفة والعلم بين فرد ومجتمع، حتى وإن جرى تقويض الاثنين معاً، له مكافئه السياسي في إنكار وجود تناقض بين الإمبريالية وباقي القوى الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية عالمياً، والذي ينسحب إلى إنكار التناقض داخل تلك القوى نفسها. فالحرب على إيران اليوم تعمّق الفرز العالمي وتصيب الخطاب «الحائر والمتوجّس والمؤامراتي» حول طبيعة الصراع في مقتل. فها هي روسيا والصين وباكستان وفنزويلا وغيرها، جنباً إلى جنب مع القوى التي تلعب حتى الآن في «هوامش الاستقرار المؤقت»، كالسعودية وتركيا ومصر، يتقاربون في مواجهة الكيان الصهيوني مباشرة وفي مواجهة الغرب وأمريكا بشكل متزايد. الحرب، كأقصى تعبير عن الواقع، تعطّل كل السردية السياسية عن طبيعة الانتقال العالمي الذي بدأ بالاتضاح منذ عقدين تقريباً. التاريخ هنا أيضاً يعوّض عن الهيمنة في مجال الوعي السياسي، والتي كان من شبه المستحيل كسرها في مواجهة سلاح دمار شامل في مجال الوعي كالذي نراه اليوم. ولكن مجدداً، هناك حاجة لخطاب ولمشروع سياسي يطرح جوهر هذا التعطّل ويقدم تصوراً بديلاً عن النظام العالمي، خصوصاً مع اشتداد الصراع، ما يتطلب توحيد المجتمعات التي تحتاج إلى إجابات سياسية-اقتصادية-اجتماعية-روحية بديلة عن النموذج المهيمن. وهذا ما بدأ يشق طريقه ببطء بالتوازي مع لجم جنون الحرب. القطع ليس فقط مع آخر 500 سنة من الرأسمالية، بل مع عدة آلاف من السنين من المجتمع الطبقي، لن يكون بهذه السهولة والسلاسة، بل سيكون «أوقاتاً حالكة» تحتاج إلى «شِعرها» الخاص بها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1231