السؤال الفلسفي ينضج عالمياً و«المهمة المستحيلة»

السؤال الفلسفي ينضج عالمياً و«المهمة المستحيلة»

في مواد سابقة أشرنا إلى أن وصول تناقضات النظام الإمبريالي إلى حدودها التاريخية يكشف الجوهر التاريخي لهذا النظام على المستوى السياسي وحتى على المستوى الفلسفي ما يجعل من النقاش الفلسفي ولأول مرة في تاريخ هذا النظام حاجة عملية سياسية ملموسة. هنا نعالج أمثلة حول الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي والفلسفة التطبيقية

الذكاء الاصطناعي اعتبره البعض فرعاً من علم النفس ولكنه أيضاً فرع من الفلسفة التطبيقية لكونه يدفع إلى الواجهة الأسئلة الفلسفية الأساسية حول أسباب وكيفية تشكل الوعي وعلاقة الوعي بالتجربة، وكذلك عملية المعرفة وإمكانها. ولهذا، اعتبر الذكاء الاصطناعي بأنه يرفع من حدة التوتر في ميدان الفلسفة خصوصاً عندما أظهرت النظريات المثالية الميكانيكية المهيمنة في الميدان أنها قاصرة عن تمثيل العمليات العليا المرتبطة بالتجريد والتعميم بعيداً عن التوصيف الكمي للوعي، وبعيداً عن المنهجيات الربطية المباشرة، لا الجدلية، للظواهر، خصوصاً مسألة إنتاج المعنى، أي القبض على مضمون الظواهر بما يتجاوز تسجيل الشكل الخارجي عبر منهجية حسيّة (الاعتماد على ما تسجله الحواس فقط دون أي عمليات عقلية عليا). ولكن النقاش الفلسفي لا ينحصر في التطبيق ضمن الميدان فقط.

الذكاء الاصطناعي والميدان الاجتماعي السياسي

يمتد تأثير الذكاء الاصطناعي إلى الميدان الاجتماعي نفسه لناحية وضعه على طاولة بحث النموذج الاقتصادي والسياسي والإداري للرأسمالية في ظل تأثيره على الوظائف وإنتاج فائض القيمة وارتفاع قدرات التسويق (وبالتالي الاستهلاك) ومن ثم اشتداد منسوب وتركز الهيمنة بالضرورة مدعوماً بارتفاع قدرة القوى المالية المهيمنة للوصول إلى المعلومات وبالتالي تطويعها لصالحها. وهذا ما يدفع أخيراً إلى ظهور تيارات بحثية حول حوكمة الذكاء الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي والمجتمع. هذا التيار البحثي كان قد ظهر في السنوات القليلة الماضية في بعض الجامعات ومراكز البحث وحتى المنصات الدولية كبعض المؤسسات التابعة للأم المتحدة أو الهيئات الإقليمية والوطنية للاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة وغيرها. ويمكن تعداد الكثير من الجامعات الأساسية التي أطلقت برامج بحثية بهذا الخصوص. من هذه البرامج مثلاً ما يتم عنونته تحت قضايا «الانسانية في عصر التحويل الرقمي»، أو «الادارة والقضايا الاستراتيجية والذكاء الاصطناعي»، وفي توصيف هذه البرامج هناك إشارة صريحة إلى التحديات السياسية والإدارية، وضمناً الامنية والعسكرية التي يلقيها الذكاء الاصطناعي على البشرية.

الذكاء الاصطناعي والسؤال الفلسفي

إضافة إلى الأسئلة السياسية والإدارية بدأ يظهر مؤخراً تيّار تخصّصي يتجاوز البحث السياسي والاجتماعي في تأثير الذكاء الاصطناعي نحو التأثير الفلسفي. والمقصود بالتيار البحثي هو وجود برنامج بحثي في جامعة أو مؤسسة بحثية ما ضمن كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية أو الفلسفة تحت عناوين مباشرة تعالج التأثير الفلسفي للذكاء الاصطناعي. لا نقول هنا بأن النقاش الفلسفي حول الذكاء الاصطناعي جديد في الميدان العلمي عالمياً، لكون هذا النقاش بدأ بالتطور مبكراً خلال العقدين الأخيرين، من خلال بعض الكتاب التي اعتبرت «تأسيسية»، ولكنه اليوم انتقل إلى مجال البحث العملي من خلال برامج بحثية مخصصة لهذه الغاية، أي تحول اليوم إلى مسألة مباشرة موضوعة على طاولة البحث بغض النظر عن المرجعية السياسية أو النظرية التي يجري فيها النظر في المسألة.

من هذه البرامج البحثية مثلاً يمكن أن نجد «الجوهر الفلسفي للذكاء الاصطناعي»، أو «النموذج الاجتماعي في عصر الذكاء الاصطناعي» المرتبطة بالنظرة إلى العالم والعلاقات الاجتماعية والمقولات الفلسفية التي يضمنها الذكاء الاصطناعي. ولكن أكثر العناوين تطوراً في معالجة التأثير الفلسفي هو تلك البرامج البحثية التي تتوجه مباشرة إلى السؤال المرتبط بالعقلانية وإنتاجها أو عدمه في هذه المرحلة كسؤال سياسي مرتبط بفقدان النموذج الطبقي الذي يقوم على الانفصال بين الفرد والمجتمع، أي القدرة على الاستمرار. من تلك البرامج مثلاً ما هو تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي والفعالية الابستمية (المعرفية)» المعنية بالتحول الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على عملية إنتاج العقل والمعرفة بمعناها الواسع المتجاوز لمسألة التلاعب بالوعي وذلك من خلال تحويل بنية نظام النشاط والمهام العملية المؤسسة للعلاقة بالواقع. هذا العنوان له علاقة مباشرة بتأثير الذكاء الاصطناعي على ميدان الوعي ليس على المستوى الكمي فقط، بل على المستوى النوعي أيضاً. ومجدداً، ليس بالضرورة أن يكون من يطرح هذه العناوين ويقوم بالبحث حولها له موقف جذري من النظام، ولكن ما يهمنا هو أن الوقائع العملية صارت من الوضوح والحدة بحيث أن أي عقل مهما كانت مرجعيته الفكرية غير قادر على تجاهلها.

خلاصة عامة

الذكاء الاصطناعي هو من العوامل التي ترفع من تناقضات البنية الطبقية في شكلها الرأسمالي، وتدفع بعضها إلى حدها الأقصى، ما يجعل التعامل مع التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي له ملامح فلسفية بالضرورة. والفلسفة هنا ليست علاجاً فلسفياً لهذه التحديات فقط، بل بشكل خاص طرح الأسئلة الفلسفية الأساسية على بساط البحث العملي السياسي اليومي ومن أهمها الكشف عن تناقضات البنية الطبقية بما هي بنية اغترابية تنتج انقساما بين الإنسان والواقع من خلال العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية، ما ينتج انقساماً في الوعي. الذكاء الاصطناعي لا يخلق هذا الانقسام كما يحاول تيار تشويه الواقع القول عبر تحميل الذكاء الاصطناعي سبب هذا الانقسام. إن الذكاء الاصطناعي يعظّم من هذا الانقسام ولا يخلقه. لهذا السبب نشهد هذا التعاظم في البرامج العلمية البحثية المتخصصة بهذه المسائل التي من أهم شروط التقدم لها هي أن يكون الباحث قادماً من خلفية عابرة للتخصصات بين التكنولوجيا والعلوم الإنسانية والفلسفة. ولهذا وحده معنى آخر هو أن الذكاء الاصطناعي يفرض واقعاً عملياً يتناقض مع التقسيم بين مستويات الواقع وبين الاختصاصات وبين العقل التقني والعقل الفلسفي والاجتماعي، وحتى الفني. ولهذا سببه الذي أشرنا إليه في مواد سابقة وهو الاندماج الحاصل بين مستويات الواقع الناتج عن اشتداد التناقضات. ولكون الذكاء الاصطناعي هو أحد العوامل الاساسية في تعظيم هذه التناقضات، فهو بالضرورة يحمل أيضاً ملامح اندماج مستويات الواقع، من التقني التكنولوجي التطبيقي إلى الفلسفي إلى السياسي إلى النفسي والفني، وغيرها.

التحدي الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على البنية الطبقية في شكلها الرأسمالي-الإمبريالي وإن كان لا يظهر مباشرة في الحدث ولكنه يساهم في خنق هذه البنية ويرفع من التوتر الذي نراه مكثفاً في الصراع السياسي العسكري اليومي ويفرض إلحاحاً سياسياً وعلمياً واقتصادياً وفلسفياً ونفسياً على البنية المنقسمة على ذاتها، طالما أننا بعيدون عن السيناريو «الأرماجادوني» (سيناريو يوم القيامة) الذي يأتي مجدداً الفلم الأخير لسلسلة «المهمة المستحيلة» (Mission Impossible) (بطولة توم كروز) في نسخته الثامنة كتعبير مكثف عنه، حيث ينقذنا «البطل الأمريكي، العقلاني والإنساني الأخير» من يوم قيامة نووي تدميري مسؤول عنه الذكاء الاصطناعي وفردين أو ثلاثة من «الأشرار»، ولا يخلو الفلم من إقحام للروس وسلاحهم وعقلهم العسكري والسياسي، وحتى سلوكهم الفردي، وصولاً إلى تحميل الروس المسؤولية غير المباشرة إلى مساهمتهم في هذا السيناريو التدميري حيث إن «المصدر البرمجي» للذات الاصطناعية التدميرية موجودة في غواصة نووية روسية غارقة كان هي نفسها ضحية لسلاح ذكي تحمله. هي فعلا مهمة مستحيلة لهذه البنية مواجهة هذا التحدي، وتاريخ الفلسفة بشكل خاص هو مسرح هذه الاستحالة الظاهرة منذ قرون سابقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1229