الاستفزاز الرخيص كظاهرة أصيلة لانحلال الهيمنة العالمية

الاستفزاز الرخيص كظاهرة أصيلة لانحلال الهيمنة العالمية

إنّ بشاعة الحدث والآلام والخوف المرافقين له تلتقي مع كمٍّ كبير من السخرية الباردة والمقيتة التي تملأ الفضاء الإعلامي كأداةِ سلاح شامل. وفي تحليل الحدث اليوم يجب أن يتم أخذ هذين الجانبين، بشاعة الحدث والمشاعر والمعاناة المترتّبة عليه من جانب، والسخرية الرخيصة حول الحدث من جانب آخر، من أجل تتبّع المسار العام لممارسة استفزازية عالَمية مطلوبة لا بل قد تكون الوحيدة الممكنة أمام قوى التدمير الممَنهج من أجل منع أي تطور إيجابي وتقدمي.

الاستفزاز كممارسة عالمية

العامل العام المميّز للأحداث الأخيرة في سوريا تلتقي مع مسارٍ عالمي مبني على الاستفزاز الرخيص، من حادثة كشمير بين الهند وباكستان، إلى أحداث تشويه التّماثيل الروسية والسوفييتية، إلى حرق القرآن في بعض الدول الأوروبية سابقاً، وغيرها، إلى التقرير الأخير حول ضريح الأمين العام الأسبق لحزب الله في لبنان الشهيد حسن نصر الله، وحتى المسلسلات والأفلام ضمن ما يسمى «ثقافة الإلغاء» واللعب على مسألة الهويّات إن كان تغيير هويّات شخصيّات تاريخية أو السخرية من رموز معروفة، ويُتَوّج في خطاب الإدارة الأمريكية على لسان ترامب في تعامله الاستفزازي مع مختلف الأطراف. هذا المسار هو أحد التعبيرات في البنية الفوقية وخاصةً في الوعي والسياسة، عن أزمة الهيمنة الإمبريالية.

الاستفزاز الممَنهج ظاهرة أصيلة وعامّة

الكلام عن استفزاز ممَنهَج، عن ممارسة متكاملة للتحريض، لا عن أحداث متفرّقة صدفيّة تستجرّ ردّات فعل، لا يحتاج لبحث طويل. على العكس، إنّ تاريخ الاستفزاز في كونه كاسحةَ ألغام لتمهيد الطريق أمام المخطَّطات السياسية العامة ليس بالجديد، خصوصاً في ظلّ بنى يكون فيها الوعي والتنظيم السياسيَّين ضعيفاً. ولكن بينما كان الطابع العام السابق للاستفزاز يعمل كتبرير «شكلي» وعنصر مساعد أمام القوى صاحبة المصلحة في تمرير مخططاتها، صار اليوم ضرورة ومدخلاً لتحقيق المخططات، لا بل قد يكون العنصر المركزي. ولهذا التحوُّل أساسٌ موضوعي في القاعدة المادّية لمجتمع التراجع العميق والشامل للإمبريالية، وبنيتها الفوقية المعبّرة عنها من وعي وأخلاق وقيم وسياسة ونظرة إلى العالم. فالتحول إلى نموذجٍ للنهب المباشر من قاطعي الطريق الإمبرياليين، وانكشاف زيف كل السردية الليبرالية، وانعدام أي بديل عقلاني وإنساني قابل للحياة في ظل الرأسمالية في صيغتها الراهنة، هو القاعدة الموضوعيّة للَاعقلانيّةِ ولا إنسانيّةِ البنية الفوقية المعبِّرة عن هذه القاعدة المادية الاقتصادية. وهذا التدمير للعقلانية، كما تدمير العقل الإنساني، التي أشرنا إليها في مواد سابقة، والتي هي تحقيقٌ تاريخي ملموس لتوقعات مبكرة لكتّابٍ وسياسيِّين حول المصير التاريخي للرأسمالية، هو الطريق الوحيد أمام الحفاظ على منظومة الهيمنة الإمبريالية العالمية، أو بالأحرى تأخير موتها التاريخي. وإذا كانت اللاعقلانية هي الشكل «الاجتماعي» الذي يجري تعميمه، فإن الاستفزاز والتحريض هي أدوات الممارسة السياسية المتلائمة مع تلك اللاعقلانية، خصوصاً في الدول التي مجتمعاتها لا زال فيها وزنٌ للهويّات الدينية والعشائرية والمناطقية ما دون الهوية الجامعة الوطنية، أيْ الهوية السياسية العابرة للجماعات، والمعبِّرة في الوقت ذاته عن المصير المشترك للأغلبية الساحقة، لا للأفراد ضمن حدود تلك الدولة، بل تلتقي مع مصالح البقاء والتطور للبشرية ككلّ.

الاستفزاز ما قبل، وخلال، وما بعد

عنصرٌ مميّز يمكن التعرف فيه على الاستفزاز الممَنهج في الأحداث؛ هو أن الاستفزاز ليس في العامل المفجِّر فقط. فلو كان الاستفزاز هو في العنصر المفجِّر فقط، فكان يمكن القول إنها أحداثٌ استجلَبت ردَّاتِ فعلٍ نابعةَ عن الحميّة أو غيرها. ولكن الاستفزاز يرافق مسار الحدث ككل. وإذا ما أخذنا الحدث السوري مؤخَّراً، فإنّ الاستفزاز لا ينحصر بالفعل الإجرامي «الأوّل»، بل يمتد إلى فعلِ التنكيل، أو ما يمكن تسميته بالـ«التنكيل المفرط»، ومن ثمّ السخرية والتشفّي المبنيَّين على الدّماء والمعاناة. وهذا لا يحصل فقط من قبل مَن يقوم بالفعل، بل تقوم به شبكةٌ متكاملةٌ من الصفحات الإلكترونية والموادّ الإعلامية المعروفة وغير المعروفة المصدر والتي غالباً (وللصّدفة غير البريئة) ما تحمل هويّات طائفية ضمنيّة. الاستفزاز المرافق لكل مسار الأحداث مؤشِّرٌ واضح على كونه منهجيّاً. وهذا لا ينحصر في الحدث السوري. فالهجوم الذي وقع في كشمير مثلاً، وما تلاه من تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، رافقته مواد إعلامية «ساخرة»، منها مثلاً مَن شوَّهَ الرمزَ الهندوسي، أيْ البقرة، من خلال القول إنّ الجيش الباكستاني يمكن له أن يربط البقرة على آليّاته العسكرية حتى لا يستهدفها الجيش الهندي خوفاً على رمزهم المقدَّس.

السخرية الاستفزازية وحَرْف الطّاقة الإبداعية

إنّ تحوُّل الاستفزاز إلى ممارسةٍ ثابتة وأصيلة في المشهد السياسي لعالَم اليوم يلتقي مع تعاظم وزن السخرية. كما هو معروف في الكتابات الأدبية وحتى السياسية، إذا كانت السخرية الناقدة هي أداة جمالية وذهنية لتحويل الواقع، فإنّ السخرية الاستفزازية هي أداة تحريضية وتدميرية. ولأن الواقع اليوم صار غير محمولٍ من قبل الغالبية، فإنَّ الردّ الساخر كنوعٍ من الردّ الإبداعي «الفنّي» على هذا الواقع يتعاظَم، وهذا يمكن تلمُّسه في الكمّ الهائل من المواد الإعلامية المؤسَّساتية وصولاً إلى السلوك الفردي للغالبيّة، الذي يمكن ملاحظته في الكمّ المتعاظم لسلوك «التنكيت»، كما في الصور أو المقاطع المصوَّرة، والتي يجري تركيبها وتناقلها بين الأفراد، أو في كونها صفحات «غزيرة» الإنتاج على مواقع التواصل الاجتماعي. السخرية كأداة فنية للتعامل مع الواقع لها موقع مركزي اليوم ولكنها، كما كلّ طاقة ثورية أخرى، يجري توظيفها وحرف مساراتها نحو مشروع التفتيت والتدمير الممَنهج.

أمثلة من علوم الدماغ

كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن التراجع العام في السردية واللّغة المتماسكة للنّظرة إلى العالم وضمناً إلى الذات، وإلى المستقبل، تؤدّي إلى تراجع في وظيفة البنى الوظيفية العليا في الدماغ، حيث للّغةِ والفعالية الذاتية دورٌ مركزي فيها، ما يؤدي إلى تعاظم دور البنية الوظيفية المسؤولة عن السلوك الاندفاعي غير المسيطَر عليه بشكلٍ خاص. هذا التوصيف قالَ به مبكراً عالم النفس-عصبيّات السوفييتي ألكسندر لوريا، ويقول به اليوم علم الأعصاب الحديث، من خلال لغةٍ مختلفة في كلامهم عن خطر تراجع دور «الشبكة الفاعلة» في الدماغ المسؤولة عن التخطيط والتفكير الواعي والسيطرة على الفعل الداخلي والخارجي، وعلى تنظيم موجات التفعيل الدماغي، التي تؤدي إلى اضطراب قطبي بين الاندفاع المفرط أو السلبية المفرطة، وغيرها من الوظائف العقلية العليا. هذا التراجع لشبكة «وضع الفاعلية» يؤدي إلى اختلال التوازن بينها وبين شبكة «الوضع القاعدي» المرتبطة بالسلوكيات الاندفاعية غير المسيطَر عليها، والمرتبطة بمرجعيّات ذاتية داخلية تنميطيّة أكثر من ارتباطها بمرجعيّات خارجية واقعية. وإذا كان هذا التحليل ضمن الأكاديميا محصورٌ اليومَ في اضطرابات مرضيّة فردية كالتوحُّد والفصام والوسواس القهري واضطراب الحركة المفرط وغيرها، فإنّها مادة علمية داعمةٌ ومؤسِّسة لالتقاط أزمةِ السردية واللّغة والتصوّر العقلاني عن العالَم، كما دور الممارسة الفاعلة، مع تعاظم قاعدة السلوك الذاتي الاندفاعي التنميطيّ الذي هو البيئة الأكثر ملائمة للاستفزاز والتحريض اللاعقلاني الذي نراه اليوم.

خلاصات عامة

ما سبق يؤكد أن الردَّ الوحيد على هذا الواقع «المجنون» من الاستفزاز والتحريض كسلاح أساسي للتدمير والتفتيت ومنع أيّ تقدم نحو حلول للأزمة؛ الردّ الوحيد هو المشروع الجامع التقدّمي ليس لكونه توحيدياً فقط، بل لأنّه يمدّ القوى الاجتماعية بأدواتِ سيطرة على واقعِها ويُضعِف من وزن اللاعقلانية المؤسِّسة للسلوك الاندفاعي، ويؤسِّس لواقعٍ موضوعيٍّ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ جديد بديل عن ذلك المأزوم المؤسِّس لكلّ الاستفزاز الهوياتيّ في كونه الأداةَ الوحيدة المتبقية في يد قوى التدمير العالمية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1225