عُسر هضم العقل الشّكلي ووحدة وصراع المتناقضات
كلما اقترب التاريخ من الكشف عن قوانينه الداخلية كلما فرضت الفلسفة نفسها مجدداً وبشكل ظاهر ليس فقط على العمليات التاريخية بل على الخطاب اليومي نفسه. والمرحلة الراهنة كاشفة بالضرورة. ولكن أي موقع فلسفي هذا الذي يسمح بهضم كم التحولات الحاصلة؟ ومجدداً من الفلسفة، هل هو موقع العقل الجدلي أم العقل الشكلي الميكانيكي الجامد؟
عن التخبط الحاصل وغنى المرحلة
من المفهوم أن يكون للتحوّلات الحاصلة وتسارعها وقعٌ صادمٌ وغير مفهوم، ليس فقط لناحية الانتقالات الحاصلة بين المواقع والتبدلات في المواقف والمفاهيم، بل لكون الظواهر نفسها متناقضة. وهذا يؤدي إلى المواقف المتوجسة والمشككة لناحية حصول تحول حقيقي مع أن المعطيات تقول بتحوّل كهذا. يأتي ذلك مدعوماً بغياب المشاركة الفعلية للقوى الاجتماعية في العمليات التاريخية على مدى عقود، نتيجة تجفيف الفضاء السياسي، ويترافق ذلك مع حجم من الضخ الإعلامي على مدار اللحظة في تعميم فكرة «عدم نظافة السياسة» وفكرة تماثل القوى المتصارعة، وما إلى ذلك من توسيع المسافة بين القوى الاجتماعية التي لها المصلحة بالتغيير وبين واقعها، ما يعزز ضرب الأمل بأي أفق إيجابي بغض النظر عن مدى قربه أو بعده. وكل ذلك يحصل ضمن عمل ممنهج هائل لإلغاء غنى المرحلة وما تحمله من احتمالات. وهذا مفهوم أيضاً ضمن تعاظم دور الصراع على الوعي كون تدمير العقل هو إحدى أدوات سلاح الدمار الشامل المتلائم مع فقدان الرأسمالية أي قاعدة عقلانية لاستمرار هيمنتها.
الفلسفة الشكليّة كرافعة لضرب الغنى والتحول
إن تعاظم دور الصراع على الوعي في تلاقيه مع انكشاف الجوهر الفلسفي للتاريخ يجعل القوى المهيمنة تستعين بكل ما هو نقيض لهذا الجوهر التاريخي. وإذا انطلقنا من موقع النظرة المادية الجدلية لهذا الجوهر، فإن ما يجري تعميمه اليوم ينتمي إلى كل ما هو معادٍ للتطور والحياة والعقل في التراث الفكري الفلسفي للبشرية. وهذا يعني إضافة إلى استعادة العقل العدمي والتفكيكي، هناك استعانة بالفلسفة الشكلية المتناقضة مع الموقع الجدلي.
وإذا كانت العدمية والتفكيكية تتحرك في ميدان تصاعد التوتر والصراع الدامي المباشر، فإن عناصر الفلسفة الشكلية تتخادم مع مستويات الواقع الهادئة نسبياً. وهذا يصبح مفهوماً في كون الواقع التاريخي اليوم فيه من عناصر التوازن ما يخنق إلى حد ما التوتر والصراع والتفكيك، ويسمح بتطور «سلمي» للعمليات السياسية وعلاج الظواهر. هكذا تكشف الفلسفة الشكلية عن نفسها في التعامل مع ما يحصل من عمليات سياسية على المستوى العالمي والظواهر المرافقة لها ونقصد بشكل خاص كيفية تعاطي القوى الفاعلة مع الواقع، ومع نفسها، كما في تعاطيها مع بعضها بعضاً.
بين الجدلية والشكلية
من مقولات وقوانين الجدل بأن الظواهر تتطوّر مدفوعة بالتناقض الداخلي، وبأن التراكم الكمي يؤدي إلى تحولات نوعية، وبأن المتناقضات في حال جرى حلّها بشكل إيجابي تسمح بولادة مستوى أعلى من الوجود، وفي حال عدم حلها إيجابياً تؤدي إلى تدمير النقيضين معاً، ومقابل «قانون الهوية/التطابق» في المنطق الشكلي (الصوري) يقول الديالكتيك بأن الظواهر لا تملك جوهراً وهوية ثابتين بالمعنى المطلق. وهناك أيضاً، وهو ما يعنينا هنا بشكل خاص، وحدة وصراع المتناقضات. بينما العقل الشكلي ينفي أولاً قانون التناقض، كما ينفي التطور والتحول النوعي، وينطق أيضاً بالجواهر الثابتة المطلقة (انظر الموقف من قضايا الهويات الطائفية والدينية والقومية وغيرها)، والعقل الشكلي يتحدث أيضاً بالتماثل والتكرار المغلق لزمن دائري لا لزمن مفتوح.
تغييب قوانين الجدل والموقف من جديد المرحلة
كان تغييب قوانين الجدل حاضراً وبقوة في العقود الماضية، وخصوصاً في المواقف التي تناولت طبيعة المرحلة والموقف من القوى الأساسية فيها وعن احتمالات التطور. وهكذا مثلاً جرى تغييب التناقض في النظام العالمي بين نجاة البشرية وبين فنائها، ومعه التناقض بين كل ما هو حي ومنظم في العالم وبين تفكيك الدول مهما كانت هويتها الاقتصادية والسياسية، بل فقط لكونها دولاً تقف عائقاً في وجه انتزاع فائض القيمة عالمياً. وهكذا جرى مثلاً الزعم بتماثل القول العالمية؛ فروسيا والصين والولايات المتحدة وإيران وتركيا، والدول الأخرى، كلها متماثلة والصراع صفري في محصلته. واليوم يقوم العقل الشكلي بتصنيف نتائج الجولة الحامية السابقة من الصراع (التي جاءت نتيجة توازن القوى في العالم والمنطقة والذي يكبح نسبياً التدمير والتفكيك) ضمن الإحداثيات الجامدة نفسها، التكرارية والتماثلية، مما يؤدي إلى استعارة نتائج تاريخية لمرحلة سابقة وإسقاطها على المرحلة الراهنة، وتشويه الحاضر ومعناه.
ولكنه اليوم يستعين بشكل خاص بقانون وحدة وصراع المتناقضات، وذلك بالقول بأن القوى ونتيجة التقائها على طاولة مفاوضات، من روسيا والولايات المتحدة (فيما يخص أوكرانيا) إلى أمريكا وإيران إلى أمريكا وتركيا والدول العربية، إلى الهند وباكستان، فهذا يعني بالنسبة لمقولات هذا العقل بأنها ليست فقط متماثلة، بل إنه لا يمكن لها أن تكون في صراع، لا بل وأن التقاءها ينفي أي تطور في الصراع، وأن ما يحصل هو مجرد تكرار لقوانين الصراع السابقة المحكومة بمناطق النفوذ مثلاً، لا صراعاً على مصير الدول نفسها.
هذا الموقف الشكلي في النظر إلى «تقارب القوى» بأنه لا صراعي بل تآمري، ينفي بأن المتناقضات هي أساساً ضمن بنية واحدة، وأن المرحلة كما قيل سابقاً تفرض اندماجاً بين مستويات الواقع وتقارباً بين الظواهر والترابط الشديد في حلها، ولكن والأهم التشارك في حلّها على قاعدة الصراع، لأن نتيجة الصراع في شكله السلبي غير التوليفي اليوم تعني تدمير المتناقضات كما قلنا سابقاً. انظر مثلاً الحوار الكردي التركي وحل حزب العمال الكردستاني لنفسه، فبدل أن ينظر له ضمن وحدة المتناقصات يجري النظر له من موقع الهزيمة لطرف والانتصار لطرف آخر. وهذا ما يفرض بأن قانون وحدة وصراع المتناقضات يظهر جلياً وعارياً حيث إن المتناقضات هي في صراع، وهي ضمن وحدة، ولكنه يجري تحويلها لدى العقل الشكلي لوحدة مواقع، بدل النظر إلى كون محصلة الصراع هي توليف لمستوى أعلى أعقد وأرقى من الصراع.
المرحلة تكشف عن الجوهر التاريخي في شكله الفلسفي والمنطقي الصافي والعاري، والمتناقضات لا تقترب عالمياً بل تقترب محلياً، وضمن كل بنية، والاقتراب المحلي (الخاص) هو انعكاس للاقتراب العام. وهذا الاقتراب هو اقتراب صراعي لا تقارب سياسي. فكلا النقيضين يتحولان في عملية وحدة يولد منها قاعدة جديدة للتناقض. هذا كله ينفيه العقل الشكلي فيُغرِق العقل اليومي ببؤس فلسفي وسياسي «رشيق وضحل». هذا الموضوع يفتح على موضوع آخر لمادة أخرى هو التحول الحاصل على مستويات التناقض الثانوي والرئيسي والأساسي، فتشويه هذا التعقيد في مستويات التناقض وتحولاته أيضاً هو معبود العقل الشكلي وفكره البسيط.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1227