علم الغرب وتحضير العقل لانفجار طويل-مفتوح

علم الغرب وتحضير العقل لانفجار طويل-مفتوح

في خضم إغراقنا بالدماء والعنف والجوع، يدفعنا النظام العالمي نحو حدود تتجاوز قدرة العقل على التحمل، بل نحو تهديد وجود العقل ذاته. هذا الدفع نحو اللاعقلانية والهمجية، التي تحاول قتل الأمل ونفي إمكانية مستقبل مختلف، تفرض علينا - وبسبب هذا الإغراق ذاته - ضرورة التمسك بمساحة العقل كفعل ثوري أساسي، كفعل حياة. هذه المادة تحاول تتبع تطور صناعة العقل في العلم والأكاديميا الغربيين.

الأكاديميا الغربية كمؤشر للتنظير السياسي

من المعروف أن الأكاديميا والعلم يشكلان جزءاً لا يتجزأ من بنية الهيمنة الرأسمالية، حيث يتم إنتاج العقل بشكل أساسي ضمن مؤسسات تابعة لجهاز الدولة الرأسمالية. هذه المؤسسات، وبالأخص الأكاديمية والعلمية والفلسفية، تمثل مؤشرات مبكرة على العقل السياسي الذي يتم تطويره بما يتناسب مع التحولات التاريخية، بهدف ترميم منظومة الهيمنة في مجال الوعي. هذا يتم من خلال تأسيس سردية الهيمنة التي تنتج رؤية للعالم تبرر بنية العلاقات في اللحظة التاريخية المعينة، وتحاول استيعاب التناقضات وتغليفها وتسويقها على أنها «الحياة الطبيعية».

ولكن مع تعمق التناقضات ووصولها إلى حدودها التاريخية، التي تكشف جوهر العلاقات وقوانينها التاريخية، أصبح ترميم منظومة الهيمنة في مجال الوعي معادياً لكل عقل، ومتجاوزاً كل حدود الاحتمال الإنساني. هذا يجعل المرحلة الحالية نسخة متطورة تعيد إنتاج مراحل الهيمنة السابقة في تاريخ المجتمع الطبقي، التي اتسمت بالتدمير المباشر لمصادر التهديد التاريخي. اليوم، يحتل العقل موقعاً مركزياً في هذا التدمير، نظراً للأهمية التي اكتسبها في نظام الحياة الحديث. وهكذا، لم تصل الرأسمالية وحدها إلى حدودها التاريخية، بل وصل المجتمع الطبقي ككل إلى هذه الحدود، مما يعني أن أي ترتيب جديد يحاول نزع أسباب الانفجار من المجتمعات سيتناقض مع الانقسام الطبقي في التاريخ البشري.

مرحلة الوصول إلى الحدود التاريخية

أصبح ترميم هيمنة القوى الرأسمالية المأزومة مهمة شبه مستحيلة دون تدمير العقل، إذ إن مستوى التناقضات الحالي لم يعد ممكناً تبريره إلا في عالم مجنون لا مكان فيه لأي شكل من أشكال الانتظام، خاصة ذلك الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية. نحن نعيش في عالم تحاول فيه الأقلية المالية واقتصادها الأسود الحفاظ على علاقات نهب أصبحت مدمرة للطبيعة والإنسان. هذا الوصول إلى الحدود التاريخية يفرض شروطاً خاصة على البنية الفوقية، في الوعي العلمي والسياسي والأخلاقي والفلسفي والفردي، وفي كل ما تشمله النظرة إلى العالم. هذه الشروط يجب أن تتلاءم مع البنية التحتية التي أصبحت تناقضاتها عصية على الاستيعاب والتمويه، مما يفتح المجتمع البشري على مرحلة تحول تهدف إلى حل هذه التناقضات التي تعود جميعها إلى علاقات الإنتاج وإدارة المجتمع ونظام الحياة الناتج عنها.

قبول الانفجار المفتوح

بما أن القاعدة الطبقية للمجتمع تواجه حدودها التاريخية - وإلا فإننا نواجه تدميراً للطبيعة والإنسان، أي إبادة للبشرية - فقد دخل المجتمع البشري ككل في مرحلة من الانفجارات الاجتماعية والسياسية والأمنية والعسكرية والعقلية. هذه المرحلة ستستمر حتى يتم تصحيح وتجاوز هذا الانقسام غير الإنساني الذي يميز مرحلة ما قبل التاريخ البشري، كما وصفها فريدريك إنجلس. هنا يبرز السؤال المركزي أمام البنية الفوقية لعلاقات الهيمنة: أي عقل يجب على قوى الهيمنة صناعته لكي يتلاءم مع هذا الواقع المنفجر، والأهم، مع واقع يجب أن يبقى منفجراً لأن أي حل سيعني نهاية القاعدة الطبقية القائمة؟

على عكس إنتاج السرديات «المتماسكة» سابقاً، تحاول الدوائر الأكاديمية والعلمية اليوم إنتاج سردية تُشرعِن الانفجار وعدم اليقين.

«علم» الانفجار وعدم اليقين: التحول كواقع أبدي

كما ذكرنا سابقاً، تحاول الدوائر الأكاديمية والعلمية التكيف مع حاجة المجتمع إلى التحول من خلال «بحوث التحول» في بعض جامعات الغرب. لكن هذه البحوث لا تحمل طابعاً ثورياً، فهي لا تطرح هدفاً للتحول بل تجعل من التحول واقعاً أبدياً (ليس بالمعنى الديالكتيكي الصحيح لمطلقية الحركة ونسبية السكون بل وفق التشويه البرنشتايني الزاعم أن: الحركة كل شيء والهدف لاشيء). بل لقد أدرك العقل الغربي أن المجتمع قد انفتح على حالة من عدم الاستقرار والانفجار المستدام العضوي المفتوح، ولذلك فهو يحاول صنع «عقل» يتناسب مع هذا الواقع، تماماً كما أنتج سابقاً تيار «علم النفس الإيجابي/الوضعي» الذي عزل الإنسان عن واقعه ضمن حدود فردانية عندما كانت الشروط التاريخية في العقود الماضية أقل انفجاراً مما هي عليه اليوم.

اليوم، ومع تضييق هامش الرفاهية وثقل شروط الواقع التي لم يعد بالإمكان إنكارها «فردانياً»، أصبحت هذه الشروط قاتلة. التناقضات لم تعد منفجرة روحياً فحسب، بل أصبحت منفجرة سياسياً وأمنياً وطاقوياً وصحياً وغذائياً. لذلك عاد العقل إلى أرض الواقع، وأصبح من الضروري لقوى الهيمنة إنتاج «عقل موضوعي» يتناسب مع ثقل الواقع الموضوعي. هذا «العقل الموضوعي» هو الوجه الآخر لعملة «العقل الذاتي الفرداني». فبينما ينكر الثاني الواقع، ينكر الأول الفرد والذات، لأن المجتمع المنقسم لا يستطيع أن يقبل الاثنين معاً في توليفة حية تعبر عن ضرورتهما في الوجود.

في جامعات الغرب نجد اليوم عناوين لبحوث مثل: «ما هي الشروط النفسية والعقلية التي تجعل العقل البشري قادراً على التعامل مع واقع منفجر غير مستقر؟». الهدف من هذه البحوث هو تهيئة العقل لقبول الواقع دون محاولة تغييره، بل لقبوله كواقع أبدي. هذا التيار المتصاعد يمكن تسميته بـ«تيار التحول» أو «عقل التحول».

خلاصة عامة

أصبح واضحاً اليوم أن كل الأزمات والحروب التي تفتح لا تنغلق، بل تبقى معلقة وفي تصاعد مستمر. هذا هو التعبير الواقعي عن فكرة أن الحرب أصبحت ظاهرة عضوية في النظام العالمي الذي يعكس الانقسام الطبقي، سواء في دول المركز أو الأطراف. الانقسام الطبقي ظاهرة عامة، وما نراه من تفتيت في سوريا ودول أخرى، والصراعات بين الدول التي تعكس مجتمعات غير متحدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، هو مجرد تعبير عن هذا الانقسام العالمي. دوائر الهيمنة تفهم هذا القانون وتحاول ترسيخه على المستوى العقلي وفي النظرة إلى العالم.

كما ذكرنا سابقاً، فإن من شروط ترسيخ الواقع المنقسم طبقياً تدمير الواقع وتدمير العقل السوي، كتعبير عن الثنائية الفلسفية الأكثر تطرفاً التي تعكس أزمة الفلسفة الرسمية: المادية المتطرفة مقابل المثالية المتطرفة. ظاهرة «عقل التحول» تمثل تكثيفاً لهذه الثنائية: واقع يتم تدميره، و«عقل» يجب أن يقبل هذا التدمير كواقع أبدي، مع كل ما ينتج عنه من عدم يقين واضطراب، من خلال إنكار حاجته الأساسية لإنتاج واقع إنساني مفهوم ومستقبل يمكن بناؤه. باختصار، نحن أمام إعلان رسمي من دوائر الهيمنة بأن انفصال الإنسان عن المجتمع (أساس المجتمع الطبقي) لم يعد ممكناً الحفاظ عليه، ولكن بدلاً من حل هذا الانقسام، يجب قبول تداعياته كأمر أبدي، وفقاً لهذه الدوائر. وهذا القبول يعني عملياً تدمير طرفي الانقسام: الإنسان والمجتمع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236