سورية على الطريق الجديدة من نحن؟ وماذا نريد؟

سورية على الطريق الجديدة من نحن؟ وماذا نريد؟

مع بدء الحركة الاحتجاجية في سورية في آذار 2011 اجتمعت هيئة تحرير جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية في دمشق، وهناك اتخذ القرار بفتح ملف بعنوان «سورية على مفترق طرق» كان الهم الأساسي في حينها أن يتحمل الحزب مسؤوليته السياسية ويقدم لجمهوره حصيلة خبرته السياسية، ورأيه في القضايا المختلفة استناداً إلى منصة علمية رصينة، وفي ذلك الوقت انكبت كوادر الحزب الشابة على كتابة عشرات المقالات لنقاش القضايا الأساسية المطروحة، لكن صوت السلاح دفع ملايين السوريين للانكفاء مجدداً، والابتعاد المؤقت عن العمل السياسي، ومع تعقد الأزمة ضاقت فسحة الأمل وجرّفت البلاد من أهلها، وظل الباقون فيها جالسين ينخرهم اليأس... أما اليوم، وقد سطعت الشمس مجدداً ودفّأت العظام الباردة، فإننا نواصل من منبر «قاسيون» وحزب الإرادة الشعبية من خلفها، وعبر الأقلام الشابة بشكل أساسي، طرح مجموعة من المسائل أمام السوريين، علّها تركّز الضوء على المخرج الوحيد من أزمة وطنية وسياسية عميقة جثمت فوق صدورنا لسنوات... سعياً وراء انتصارات أكبر قادمة... لأن أجمل الانتصارات هي تلك التي لم تأت بعد...

حرامية وطرابيش

لم يكن من الصعب إدراك أن العوائق أمام حل الأزمة السورية لن تظل قائمة؛ فالتاريخ لا يمكن إيقافه كما يشتهي اللصوص، بغض النظر عن اصطفافاتهم السابقة. وها نحن اليوم نرى الأفق وقد فُتح أمام حل أزمتنا التي شردت وقتلت وأفقرت السوريين، لكن مسألة حساسة وخطرة تبدو غائبة عن الكثيرين، وهي أن رموز السلطة السابقة الذين راكموا ثروات طائلة من جيوب السوريين كانوا يدركون أن هذا اليوم لا بد قادم، وهم لذلك أعدوا العدة له، ونهبوا خلال السنوات الماضية جهاز الدولة في سورية، وأعادوا ضخ هذه الأموال المنهوبة على شكل استثمارات «شخصية»؛ فقصورهم التي دخلها السوريون لم يكن قد بقي فيها سوى الفتات، أما الباقي فجرى توزيعه على عدد كبير من الأرصدة في الخارج، بل وفي شركات ضخمة داخل البلاد.
اليوم، يستعد اللصوص لتبديل الطرابيش واقتسام كعكة السوريين التي لطالما سال لعابهم عليها، والأخطر من ذلك، أن من سرق الشعب السوري لم يكن في صفوف السلطة السابقة فحسب، بل هناك من غادر السفينة بعد أن تيقن أنها غارقة لا محالة، وهؤلاء جميعهم يستعدون اليوم في الظلام لسرقة فرح السوريين وآمالهم في بناء سورية جديدة يحصلون فيها على ما يحتاجونه ويستحقونه من الثروة التي أنتجوها بسواعدهم لعقود مضت.
إن السبيل الوحيد لضرب الناهبين لا يمكن أن يكون بالبيانات وإعلان المواقف فحسب، بل لا بد من تنظيم الأغلبية الكاسحة من السوريين للدفاع عن لقمة عيشهم، ولذلك هم بحاجة ماسة لتعميم المعرفة، وأن تُكشف أمامهم أساليب النهب السابقة والقادمة كلها، فخلاص السوريين الوحيد لن يكون إلا عبر دراسة معمقة لبنية النظام السياسي القائم، دراسة تكون أساساً لنضال منظمٍ واسع يؤدي للقطع التام مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية السائدة كلها، تلك التي يظن البعض أنّها لا تزال صالحة بعد أن ثبت فشلها لعقود، لا في سورية وحدها بل في دولٍ كثيرة غيرها.

أعداؤنا أم أعداء السلطة السابقة؟!

لا يختلف اثنان أن النظام السوري عمل بشكل ممنهج على قمع الحريات، ونهب البلاد والاستئثار بالسلطة، متستراً وراء شعارات جوفاء وشكلية، حتى اختلطت الصورة أمام السوريين وجرى دفعهم بشكلٍ ممنهج، وعبر النظام نفسه، نحو تكريس مقولة: إن «إسرائيل» لم تكن عدواً، وربما تأثروا بالدعاية الصهيونية التي تقول: إن سلوك النظام وتحالفاته كان المشكلة... لكن ضباب الدعاية المسمومة سرعان ما بدأ يتبدد بعد رحيل بشار الأسد ورموز السلطة السابقين، ولم يكد السوريون يبدؤون فرحتهم، حتى شن جيش الاحتلال مئات الضربات التي أنهت مقدرات الجيش السوري، وتحديداً، تلك المخصصة للتصدي للعدوان الخارجي من رادارات ومنظومات دفاع جوي وصواريخ استراتيجية. واختار الكيان الصهيوني لحظة حساسة لتوجيه «الضربة الأكبر في تاريخه»؛ اللحظة التي شعر الشعب السوري فيها أنه مقبل على استعادة سلطته على مقدراته التي راكمها من ثرواته دون مِنة من السلطة السابقة.
أثبتت «إسرائيل» منذ يوم الأحد 8 كانون الأول، أن عدوها كان وما يزال هو شعب سورية الذي لطالما صاغ موقفه من أي نظام سياسي على أساس موقف هذا النظام من «إسرائيل» بالتحديد، وتحمل الملايين منهم مظالم النظام السوري على أساس ادعائه أنه يستعد لمعركة تحرير الجولان التي لم تأت أبداً رغم انتظارها لعقود، واليوم يجد السوريون أنفسهم مضطرين للإجابة عن سؤال أساسي: ما هو السبيل لتحرير أرضنا؟ ولن يكون من الصعب أن يعرفوا جميعاً أن ثمن التطبيع كان باهظاً جداً، ولم يحصل المطبعون العرب على أي مكسب، بل فاقم التطبيع مشاكل شعوب المنطقة، وكشفهم أمام عدوهم «الإسرائيلي» الذي كان دائماً الوجه الآخر لناهبيهم.

درس يوسف العظمة

رأى السوريون بأم أعينهم كمّاً مخيفاً من جرائم النظام السوري، ورأوا خلال أيام قصيرة مئات الوثائق على ذلك، وهم يعلمون أن ما رأوه حتى الآن ليس إلا جزءاً يسيراً مما جرى، لكن أشد جرائم النظام السوري كانت ما فعله بجيش البلاد، والذي بدأت أولى فصوله عندما بدأ النهب والفساد يتغلغل إلى مقدراته ومخصصاته، وعانى لعقود من ضعف في التسليح والتدريب مع رمي الفتات لجنوده وضباطه المتوسطين بشكل خاص.
الفصل الثاني بدأ مع انفجار الاحتجاجات السلمية في آذار 2011، حيث اختارت السلطة حينها أن تضع جيش البلاد في وجه شعبه، وفي تناقض مع قناعة غالبية قادته، وفرضت عليه توجيه سلاحه إلى صدور السوريين، وحولت أنظاره عن عدونا الأساسي، وجرته للدفاع عن النظام والناهبين. وعندها وجد آلاف الجنود والضباط الوطنيين الغيارى أنفسهم أمام أحجية صعبة الفهم، وبالرغم من كم المخاطر التي كانوا يدركونها لم يقبلوا الانخراط في معركة للدفاع عن السلطة وناهبيها، ليجدوا أنفسهم إما محيدين أو مبعدين، أو مطحونين في معارك مباشرة كان هو جزءاً منها، مع قوى إرهاب فعلية من طراز داعش.
أما الفصل الثالث من جريمة النظام بحق الجيش، فقد كانت يوم أخذت السلطة قراراً غير معلن بحل الجيش؛ فبدلاً من تسليم السلطة فر أمراء الحرب هاربين وتركوا الجيش وحده دون تعليمات ودون أوامر، بما في ذلك أولئك المرابطون على الحدود، تم تركهم حيارى، حتى اضطروا لترك مواقعهم ورمي سلاحهم بدلاً من إعادتهم للقطعات وتوجيههم لتسليم السلطة، والتعاون مع قوات المعارضة التي دخلت إلى المدن السورية دون الاشتباك فعلياً ودون دماء... هكذا ببساطة رأى السوريون جيشاً كاملاً يتخلص من زيه العسكري في الشوارع ويرمي سلاحه على قارعة الطريق... وبدلاً من الاعتماد على خبرات الضباط والجنود الوطنيين الذين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين، تم أمرهم عملياً بترك مواقعهم والذهاب إلى بيوتهم، وترك سلاحهم الخفيف والمتوسط والثقيل نهباً للضربات «الإسرائيلية»، ودون أي اعتبارٍ لكون هذا العتاد المتراكم هو ملك لسورية وللشعب السوري، وأن خسارته هي خسارة لسورية المستقبل أياً تكن السلطة والنظام اللاحق...

1205-30

سبق أن شهدت سورية حادثة مشابهة، يوم طلب الجنرال الفرنسي غورو من السلطة أن تحل الجيش، وخضع الملك فيصل في حينه لهذا الطلب ،لكن خيار السوريين كان، كما هو اليوم، مخالف لمصالح حكامه، وخرج الضابط الوطني يوسف العظمة ونادى السوريين، وفتح باب التطوع أمامهم لقتال المستعمر، رغم إدراك ضابطٍ رفيع المستوى مثل يوسف العظمة أنه سيخوض معركة خاسرة، لكنه أدرك أن معركة ميسلون المشرفة ستكون وثاقاً متيناً يضمن وحدة البلاد مستقبلاً، وهكذا سقط العظمة شهيداً ليكون أول وزير دفاع عربي يسقط في ساحة المعركة بين جنوده الغيارى، وقدم دمائه لكل السوريين الذين هبوا للتطوع قادمين من أقصى شمال البلاد وجنوبها... يوسف العظمة تعرض كغيره من رموزنا للتشويه، ولكن الوقت حان حقاً لإزالة الغبار عنه، وتقديمه لشعبه كما كان دائماً رمزاً وطنياً حارب دفاعاً عن سورية وغيبه اللصوص وعملاء الاستعمار بكل أشكاله لعقودٍ تلت ميسلون...
مع اختلاف الحالة التاريخية، حيث إن المطلوب وطنياً هو بالفعل ما جرى خلال الأيام الماضية، أي حقن الدم السوري ومنع الاقتتال بين السوريين، ولكن الدرس التاريخي يكمن في مكان آخر، وهو أن من المطلوب الحفاظ على مؤسسة الجيش، بغض النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة ورأيها وقراراتها، ينبغي الحفاظ عليه عبر الحفاظ على عتاده وسلاحه والشرفاء ضمنه، وهذا أمر سيحتاجه السوريون في مرحلة إعادة بناء بلادهم، عبر محاسبة قضائية عادلة من قبل حكومة شرعية لكل من تلوثت يده بالدم، وعبر الاستفادة من الكوادر والخبرات المتراكمة على مر عقود، وإعادة لحمة السوريين بكل تنويعاتهم...

تلاحم القضايا الثلاث وضمان المستقبل

«الترابط العميق إلى حد الاندماج بين القضايا الثلاث: (الوطنية، والاقتصادية-الاجتماعية، والديمقراطية)، هو المدخل العلمي الوحيد لتفسير الواقع السوري تفسيراً صحيحاً يسمح بتغييره» ... بهذه العبارة يبدأ الفصل المسمى «المرحلة ومهامنا»، ضمن مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية الذي تم نشره عام 2013. وقد تبدو هذه الجملة غامضة بالنسبة للبعض، ولذلك لا بد لنا من شرح ما قصدناه في تلاحم هذه القضايا.
ينتقد برنامج الحزب في حينه سلوك النظام حيال قضايانا الوطنية، وقد رأى منذ تأسيسه أن النظام السوري لم يملك أي نيّة حقيقة في حل جملة من المسائل الوطنية، والتي كان على رأسها استعادة الجولان المحتل، بل وفرطت السلطة السابقة تدريجياً بهذا المطلب الشعبي، واستخدمته لنهب الشعب وتكميم الأفواه، وتركت البلاد مكشوفة أمام شتى المخاطر؛ ففي حين رفعت شعار الممانعة لعقود لم تدرك أن الظرف الدولي والإقليمي بات يفسح المجال للانتقال نحو الهجوم بدلاً عن الموقف السلبي القابل للمساومة دائماً، والهجوم لا ينحصر بالقتال العسكري بغية استعادة الأرض، بل هو باقة متكاملة تبدأ من ضرب أعداء الداخل والناهبين الكبار، كونهم العامل الأساسي في إضعاف جبهتنا الداخلية.
تشدق السلطة بالشعارات الوطنية، ترافق مع اعتماد سياسات اقتصادية اجتماعية أدت إلى ضرب الاقتصاد الوطني، وحرمان البلاد من أي مشروع تنموي حقيقي، بل اتبعت الحكومات السورية المتعاقبة نهجاً عمل على ضرب قطاعات الإنتاج الأساسية، وحاولت تضليل الشعب بشعارات مثل: «اقتصاد السوق الاجتماعي» كما لو أنّه من الممكن حماية الخراف والحفاظ عليها، وإبقاء معدات الذئاب ممتلئة في آن واحد، وحَوّل النظام البنية القانونية بشكل ممنهج لتخدم أصحاب الربح واللصوص على حساب عموم السوريين الذين لم يملكوا إلا قوة عملهم، وهكذا جرى توزيع مجحف للثروة وتناقصت حصة السوريين منها تدريجياً، بل ومع بدء الأزمة السورية عام 2011 وجد الناهبون فرصة جديدة لزيادة حصتهم، ولم يبق للسوريين إلا الفتات الذي لم يكن كافياً لتأمين الغذاء الضروري، وتركوا الشعب في العراء جائعاً يبحث عن المأوى ولقمة العيش.
إن فرض سياسية كهذه لم يكن من الممكن دون مصادرة الحريات والتضييق على النشاط السياسي الجدي، وكانت عملية نهب السوريين الممنهجة تستوجب تحويل البنية السياسية القائمة كلها إلى خدمة الفاسدين، فجرى على هذا الأساس إبعاد السوريين عن ممارسة الرقابة الشعبية، وعن المشاركة في صناعة القرار، وحرموا من برلمانهم عبر قانون انتخابات محدد، قسم سورية إلى عدد كبير من الدوائر، ما فسح المجال أمام السلطة وناهبيها لإيصال مندوبيهم إلى البرلمان الذي جرى إخصاؤه وحرمانه من دوره الرقابي والتشريعي لصالح عموم السوريين.
ما سبق يوضّح بشكل مبسط ما قصدناه حين تحدثنا عن تلاحم هذه القضايا الثلاث، واليوم يضع التاريخ أمامنا هذه المهمة لإعادة صياغة برنامج متكامل، لا تنفصل فيه قضايانا الوطنية عن لقمة عيشنا، ولا يسمح لأي طرف بحرماننا من سلاحنا في الدفاع عن حقوقنا عبر حركة سياسية حقيقة، ونظام سياسي جديد، يضمن فصل السلطات ويوزعها بشكلٍ عادل ومتوازن، وينهي دور المركز في النهب والقمع، ويحفظ له دوره في الدفاع عن البلاد والحفاظ على وحدتها وتخطيط اقتصادها، واليوم يُعيد «الإرادة الشعبية» وضع طروحاته للنقاش العام بغية تطويرها لبناء سورية التي نطمح لها.

تنظموا... تنظموا... تنظموا!

الانتصار الذي جرى أفرح قلوب السوريين وهدهد تعبهم المتراكم عبر عقود، وهم الآن ضمن ما يشبه استراحة المحارب، لأن هذا النصر ما زال غير كامل... وأجمل الانتصارات هي تلك التي لم تأت بعد!
فليس أخطر على السوريين من الغرق في زهوة نصر غير مكتمل: ما جرى حتى اليوم هو إزاحة السلطة السياسية السابقة ورموزها، وهم الذين لعبوا دوراً أساسياً في تعطيل حل الأزمة السورية منذ انفجارها... ولكن رحيلهم لا يعني أن السوريين أنهوا النظام السابق؛ فالنظام السياسي هو مجموعة من السياسات المتكاملة، ولا يمكن إنهاؤه إلا عبر القطع مع تلك السياسات كلياً، وصياغة سياسات بديلة جديدة تخدم عموم السوريين... تجارب مصر وتونس وغيرها، أثبتت أن رحيل رأس الهرم لم يكن كافياً لإنهاء النظام، بل وأثبتت أن النظام أعاد إنتاج نفسه بشكلٍ كامل، وإنْ بوجوهٍ وطرابيش جديدة... ولذلك نحن الآن أمام فرصة ذهبية لا ينبغي تفويتها، وإذا ما أردنا حقاً بناء نظام سياسي جديد، فلا بد لنا من انخراط جدّي في عمل سياسي منظم قادر على حشد ملايين السوريين لتوجيه الضربات إلى الذين يطمحون لنهب ثروات سورية وتعب السوريين؛ فالتاريخ يعلمنا، أن العمل السياسي هو أرقى أشكال النشاط الاجتماعي، وأن خط التقسيم الوحيد الضروري هو ذلك الخط الفاصل بين الناهبين والمنهوبين، ولا يخفى على أحد أن الناهبين يملكون كماً هائلاً من الموارد، يسيطرون عبرها على الإعلام وغيره من أدوات التلاعب والسيطرة، وهم منظمون أشد تنظيم، ولا يمكن إلحاق الهزيمة بهم إلا إذا ما تمت مواجهتهم بشعبٍ منظم يملك برنامجاً متكاملاً، ويستعد للنضال السياسي لضمان مستقبله الكريم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1205