درس يوسف العظمة

درس يوسف العظمة

رأى السوريون بأم أعينهم كمّاً مخيفاً من جرائم النظام السوري، ورأوا خلال أيام قصيرة مئات الوثائق على ذلك، وهم يعلمون أن ما رأوه حتى الآن ليس إلا جزءاً يسيراً مما جرى، لكن أشد جرائم النظام السوري كانت ما فعله بجيش البلاد، والذي بدأت أولى فصوله عندما بدأ النهب والفساد يتغلغل إلى مقدراته ومخصصاته، وعانى لعقود من ضعف في التسليح والتدريب مع رمي الفتات لجنوده وضباطه المتوسطين بشكل خاص.

الفصل الثاني بدأ مع انفجار الاحتجاجات السلمية في آذار 2011، حيث اختارت السلطة حينها أن تضع جيش البلاد في وجه شعبه، وفي تناقض مع قناعة غالبية قادته، وفرضت عليه توجيه سلاحه إلى صدور السوريين، وحولت أنظاره عن عدونا الأساسي، وجرته للدفاع عن النظام والناهبين. وعندها وجد آلاف الجنود والضباط الوطنيين الغيارى أنفسهم أمام أحجية صعبة الفهم، وبالرغم من كم المخاطر التي كانوا يدركونها لم يقبلوا الانخراط في معركة للدفاع عن السلطة وناهبيها، ليجدوا أنفسهم إما محيدين أو مبعدين، أو مطحونين في معارك مباشرة كان هو جزءاً منها، مع قوى إرهاب فعلية من طراز داعش.
أما الفصل الثالث من جريمة النظام بحق الجيش، فقد كانت يوم أخذت السلطة قراراً غير معلن بحل الجيش؛ فبدلاً من تسليم السلطة فر أمراء الحرب هاربين وتركوا الجيش وحده دون تعليمات ودون أوامر، بما في ذلك أولئك المرابطون على الحدود، تم تركهم حيارى، حتى اضطروا لترك مواقعهم ورمي سلاحهم بدلاً من إعادتهم للقطعات وتوجيههم لتسليم السلطة، والتعاون مع قوات المعارضة التي دخلت إلى المدن السورية دون الاشتباك فعلياً ودون دماء... هكذا ببساطة رأى السوريون جيشاً كاملاً يتخلص من زيه العسكري في الشوارع ويرمي سلاحه على قارعة الطريق... وبدلاً من الاعتماد على خبرات الضباط والجنود الوطنيين الذين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين، تم أمرهم عملياً بترك مواقعهم والذهاب إلى بيوتهم، وترك سلاحهم الخفيف والمتوسط والثقيل نهباً للضربات «الإسرائيلية»، ودون أي اعتبارٍ لكون هذا العتاد المتراكم هو ملك لسورية وللشعب السوري، وأن خسارته هي خسارة لسورية المستقبل أياً تكن السلطة والنظام اللاحق...

سبق أن شهدت سورية حادثة مشابهة، يوم طلب الجنرال الفرنسي غورو من السلطة أن تحل الجيش، وخضع الملك فيصل في حينه لهذا الطلب ،لكن خيار السوريين كان، كما هو اليوم، مخالف لمصالح حكامه، وخرج الضابط الوطني يوسف العظمة ونادى السوريين، وفتح باب التطوع أمامهم لقتال المستعمر، رغم إدراك ضابطٍ رفيع المستوى مثل يوسف العظمة أنه سيخوض معركة خاسرة، لكنه أدرك أن معركة ميسلون المشرفة ستكون وثاقاً متيناً يضمن وحدة البلاد مستقبلاً، وهكذا سقط العظمة شهيداً ليكون أول وزير دفاع عربي يسقط في ساحة المعركة بين جنوده الغيارى، وقدم دمائه لكل السوريين الذين هبوا للتطوع قادمين من أقصى شمال البلاد وجنوبها... يوسف العظمة تعرض كغيره من رموزنا للتشويه، ولكن الوقت حان حقاً لإزالة الغبار عنه، وتقديمه لشعبه كما كان دائماً رمزاً وطنياً حارب دفاعاً عن سورية وغيبه اللصوص وعملاء الاستعمار بكل أشكاله لعقودٍ تلت ميسلون...
مع اختلاف الحالة التاريخية، حيث إن المطلوب وطنياً هو بالفعل ما جرى خلال الأيام الماضية، أي حقن الدم السوري ومنع الاقتتال بين السوريين، ولكن الدرس التاريخي يكمن في مكان آخر، وهو أن من المطلوب الحفاظ على مؤسسة الجيش، بغض النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة ورأيها وقراراتها، ينبغي الحفاظ عليه عبر الحفاظ على عتاده وسلاحه والشرفاء ضمنه، وهذا أمر سيحتاجه السوريون في مرحلة إعادة بناء بلادهم، عبر محاسبة قضائية عادلة من قبل حكومة شرعية لكل من تلوثت يده بالدم، وعبر الاستفادة من الكوادر والخبرات المتراكمة على مر عقود، وإعادة لحمة السوريين بكل تنويعاتهم...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1205
آخر تعديل على الإثنين, 16 كانون1/ديسمبر 2024 09:47