النهج الأمريكي المحتمل في سورية من العدسة الأفغانية: الانسحاب الآتي نعمة علينا الاستفادة منها
ريم عيسى- سعد صائب ريم عيسى- سعد صائب

النهج الأمريكي المحتمل في سورية من العدسة الأفغانية: الانسحاب الآتي نعمة علينا الاستفادة منها

بعد أسبوعين مما اعتُبر «انسحاباً مفاجئاً» للولايات المتحدة من أفغانستان، لا تزال تتدفق القراءات والتحليلات. سننظر هنا في بُعدٍ واحد فقط من أبعاد القضية، وهو البعد المتعلق بحركة العناصر الإرهابية أو المتطرفة (أو كما تحب وسائل الإعلام الغربية تسميتهم بـ «الجهاديين»)، بشكل عام ومن منظور سوري.

منهجية قراءة الحدث

قبل الخوض في التفاصيل، فإنّ من المهم التأكيد على ضرورة دراسة التاريخ المقارن واسترجاعه، وعدم وضع الحدث المدروس في «فراغ تاريخي»؛ وذلك حتى نتمكن من النظر في الاحتمالات المختلفة التي يمكن أن تسير بها الأمور، وحتى نتمكن أيضاً من إعداد أنفسنا لعدم «التفاجؤ» والدخول في حالة من الصدمة تتركنا مشلولين أمام أحداث يفترض بها ألّا تكون مفاجئة.
شيء آخر مهم يجب مراعاته، إلى جانب التاريخ والسياق، أثناء محاولة فهم أي موقف أو حدث، هو الافتراض دائماً أنه لا شيء تقريباً، على الأقل بهذا الحجم، ينجم عن قرار مرتجل و/ أو قرار عشوائي لشخص واحد. على وجه الخصوص، عندما يحدث حدث معين أكثر من مرة، من المهم البدء في البحث عن أنماط معينة وقوانين معينة تسير وفقها الأحداث.

ثلاثة أمثلة متشابهة بشكل «غير مفاجئ»!

بينما يستمر البعض في الإصرار على التصرف «متفاجئاً» بالانسحاب الأمريكي، فإن تقديرنا هو أن الانسحاب الأمريكي كان محسوباً، بما في ذلك كل الفوضى المؤمّل وقوعها بعده. هذه بالتأكيد ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الولايات المتحدة بذلك، وليست هذه هي المرة الأخيرة التي تحاول فيها استخدام هذا التكتيك. الأمثلة من التاريخ كثيرة، بما في ذلك انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام في نهاية مارس 1973، فعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي في حينه ريتشارد نيكسون قد ألمح إلى أن الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً إذا هاجمت فيتنام الشمالية مرة أخرى، وصولاً إلى التطمينات التي سبقت الانسحاب بأيام قليلة، ليحدث الانسحاب بشكل «مفاجئ» بعد ذلك، وصولاً إلى مشهد سايغون الذي يكاد يكون نسخة الأبيض والأسود من مشهد الطائرات الأمريكية الملون في مطار كابول عام 2021.
بالمثل، في عام 1984، انسحبت قوات المارينز الأمريكية «فجأة» من لبنان بعد أسبوع على لقاءٍ لرامسفيلد- بوصفه مستشاراً خاصاً لريغان في حينه- مع الرئيس اللبناني آنذاك أمين الجميّل طمأنه فيه بأن الولايات المتحدة ستستمر في «دعم لبنان». (انظر مذكرات دونالد رامسفيلد 2011، «Known and Unknown»، والتي ناقش فيها هذه الأحداث).

في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه، المشترك على الأقل هو التالي:
1- تدخل عسكري في بلد أجنبي ودون أي تفويض دولي.
2- دعم قسم من السكان والنخب ضد أقسام أخرى وتعزيز حالة احتراب داخلي.
3- تأمين عقود للمجمع الصناعي العسكري تترافق مع عمليات نهب كبرى والادعاء أنّ الأموال التي يتم صرفها باتجاه هذا المجمع هي «مساعدات» للبلد المعني الذي يتم التدخل العسكري فيه.
4- «خيانة» الحلفاء والانسحاب وتركهم لمصيرهم بشكل «مفاجئ».

أفغانستان والمتطرفون

بالعودة إلى أحداث اليوم في أفغانستان، سنعرض هنا ثلاث أفكار رئيسية على الأقل، والتي لن نسميها «استنتاجات أولية» لأنه لا يوجد شيء نهائي حتى الآن.
أولاً: كما ذكرنا سابقاً، في ظل الفوضى التي أعقبت الانسحاب الأمريكي، سنركز هنا فقط على جانب واحد يتعلق بحركة العناصر المتطرفة، ليس فقط في أفغانستان بل عالمياً.
بالنظر إلى الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة من أفغانستان قبل بضعة أسابيع، كانت إحدى النتائج المرغوبة على ما يبدو هي أن يؤدي تسلسل الأحداث الناتج إلى تفجير الوضع، ومعرفة أن طالبان ستسيطر بسهولة، وتحويل أفغانستان إلى مركز جذبٍ يتجه إليه المتطرفون من جميع أنحاء العالم. وعودة إلى التاريخ، فيبدو أنّ ما يطمح إليه الأمريكان هو استنساخ وضع أفغانستان نفسها في الثمانينات؛ حيث دعمت الولايات المتحدة حرب عصابات ضد الاتحاد السوفيتي لمتطرفين أسمتهم في حينه «مقاتلي الحرية»، وبينهم أسامة بن لادن.
تخصص وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، خاصة تلك الموجودة في واشنطن، مساحة كبيرة لهذه الفكرة. أشار مقال بعنوان «ها قد عادت طالبان، وجهاديو العالم قادمون»، نشره معهد واشنطن في 18 آب الجاري، إلى أن «انتصار طالبان في أفغانستان أعطى فرصة جديدة للحياة للمتطرفين الإسلاميين حول العالم»، وأن «الجهاديين [وجدوا] ملاذاً في أفغانستان و[استخدموه] كقاعدة للهجوم عندما استولت طالبان على السلطة».
يقول المقال نفسه: «استمرت طالبان في الحفاظ على علاقات مع القاعدة. الفرع المحلي لـ [داعش] تعرض لهجوم من الجيوش الأمريكية والأفغانية قبل عامين، ولكن الآن، في بيئة أكثر ودية، يمكن له أن يعود إلى النشاط واجتذاب المؤيدين الذين ذهبوا إلى سورية والعراق».
في مقال آخر، نشره أيضاً معهد واشنطن وفي اليوم نفسه، بعنوان «عودة إمارة أفغانستان الإسلامية: الحالة الجهادية الراهنة»، يتحدث الكاتب عن كيف أن انتصار طالبان «يعزز بالفعل عناصر داخل الحركة الجهادية، وقد يحفز مرة أخرى حركة المقاتلين الأجانب إلى أفغانستان»، ثم يضيف: «من بين العائدين المحتملين الآخرين أعضاء القاعدة الذين انتقلوا من أفغانستان إلى سورية على مدار العقد الماضي للمساعدة في الفروع المحلية للتنظيم- جبهة النصرة أولاً، ثم حراس الدين لاحقاً بعد أن قررت مجموعة تابعة سابقاً لهيئة تحرير الشام التخلي عن تنظيمها الأم والتركيز على أن تصبح قوة محلية مستقلة. قامت هيئة تحرير الشام بشكل أساسي بتفكيك حراس الدين في حزيران 2020، لذلك يشاع أن أولئك في المجموعة الأخيرة الذين لديهم روابط تاريخية بشبكة القاعدة الأفغانية في أفغانستان يسعون إلى العودة إلى هناك».
هذان مثالان فقط من بين العديد من الأمثلة. ولا يشمل ذلك وسائل الإعلام التي نشرت العديد من المقالات حول الموضوع نفسه، بما في ذلك The New Yorker المقروءة على نطاق واسع، والتي نشرت قبل أسبوع مقالاً بعنوان «أفغانستان، مرة أخرى، تصبح مهداً للجهادية– والقاعدة». ونشرت المونيتور قبل أيام قليلة «سيطرة طالبان قد تدفع الجهاديين السوريين نحو أفغانستان».
كذلك «خبراء» المنطقة الذين يتخذون من الولايات المتحدة مقراً لهم، تطرقوا إلى هذا الموضوع، بما في ذلك «الخبير في الشأن السوري» تشارلز ليستر الذي يعمل مع معهد الشرق الأوسط، والذي غرد أمس «حجم واستدامة تدفقات المقاتلين الأجانب سيتم تحديدهما بشكل كبير من خلال سهولة السفر – ولدى أفغانستان العديد من الخيارات الراسخة. والأهم من ذلك، أن هالة أفغانستان للجهاديين لا مثيل لها- خاصة الآن، في ضوء الأحداث الأخيرة».
وباختصار، فإنّ الأداة الإعلامية الأمريكية خصوصاً، تلعب في هذه الحالة دور المحرّض على «هجرة» المتطرفين ليس من سورية والعراق نحو أفغانستان، بل أهم من ذلك من أرجاء العالم المختلفة نحو أفغانستان، وربما على الخصوص بحثاً عن إحياء ظاهرة «أفغان عرب» جديدة...
ثانياً: فيما يتعلق إلى حد ما بالنقطة الأولى، يبدو أن النتيجة المرجوة من تحول أفغانستان الخاضعة لسيطرة طالبان إلى عاصمة للمتطرفين يمكن أن تكون خاطئة إلى حد ما. تُظهر المؤشرات الأولية من أفغانستان حتى الآن عاملين على الأقل من المحتمل أن يمنعا ذلك من الحدوث. العامل الأول هو أن دول الجوار بالإضافة إلى روسيا والصين لم تكن نائمة طوال العقدين السابقين، وليست «متفاجئة» الآن. ولذا فقد فتحت هذه الدول خطوط اتصال تعمل مع طالبان منذ سنوات لاستباق النتيجة التي يرجوها الأمريكان. العامل الثاني، الذي هو إلى حد ما نتيجة جهود هذه الدول، ونتيجة الواقع الأفغاني نفسه وتطوراته، هو أن طالبان ليست جماعة متجانسة، وهي في الواقع حركة بالمعنى العملي، أي إنها تتكون من تيارات مختلفة ذات أجندات وإيديولوجيات مختلفة...
ثالثاً: سواء توافد المتطرفون على أفغانستان أم لا، ولا سيما من بقي منهم في سورية، فإنّ هناك بلا شك مبالغة مقصودة في الموضوع، ولأسباب سنناقشها أكثر أدناه. ما يجعل هذه المبالغة غير متناسبة وغير مبررة بشكل رئيسي هو أن عدد تلك العناصر في سورية سيكون ضئيل التأثير في مكان مثل أفغانستان. بمعنى أنّ التغطية الواسعة لقضية هيئة تحرير الشام (النصرة) وأعضاء الجماعات المتطرفة الأخرى الموجودة في سورية والتي «ستهاجر بشكل جماعي إلى أفغانستان» وفقاً للإعلام الغربي، لا تتناسب مع عددهم أو مساهمتهم المحتملة في «المعركة» في أفغانستان. لذلك، فإن تقييمنا هو أن الغرض من هذه المبالغة هو ضمان تحديد أفغانستان كوجهة جديدة للهجرة بالمعنى العالمي كما أسلفنا، كموقع لتجميع جديدٍ للمتطرفين من جميع أنحاء العالم، وليس لما تبقى من متطرفين في سورية وزن فعلي في هذه العملية.

1033-8

التركيز على «الهجرة» من سورية إعلامياً؟

بالنظر إلى ما سبق، نحتاج إلى التفكير في الطريقة التي قد تحاول بها الولايات المتحدة التعامل مع سورية. مرة أخرى، لا يمكننا النظر إلى هذا من الزاوية الضيقة لأحداث أفغانستان فقط، ولكن في ضوء التاريخ، ولا سيما تاريخ الولايات المتحدة، وفي ضوء الممارسات الأمريكية في سورية على الأقل خلال السنوات العشر الماضية. بناءً على ذلك، قد نتوقع شيئين على الأقل قد تفعلهما الولايات المتحدة فيما يتعلق بسورية:
أولاً: ستستخدم الولايات المتحدة الإعلان عن أفغانستان كوجهة جديدة للمتطرفين، وخاصة من سورية، كدليل على أكذوبة تطهير النصرة من تطرفها. إن محاولات تبييض النصرة من قبل الولايات المتحدة مستمرة منذ سنوات، «هناك العديد من مقالات قاسيون السابقة التي ناقشت هذا الأمر»، ولكن قد يتم الإعلان عنها كخطوة أخيرة في «سورنة النصرة». ستحاول الولايات المتحدة القيام بذلك، بغض النظر عما إذا كان المقاتلون الأجانب في النصرة (والجماعات المتطرفة الأخرى في سورية) قد غادروا أم لا. الفكرة هي أن تبالغ الولايات المتحدة في تصوير أفغانستان على أنها بؤرة جديدة للتطرف، بحيث يُفترض أن أي عنصر متطرف في أي مكان في العالم سينتهي به المطاف هناك، سواء حدث ذلك بالفعل أم لا. يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك أن تشير إلى أن جبهة النصرة هي أخيراً «طرف سوري»، يمكن للجميع العمل معه بشكل علني، بما في ذلك أن يكونوا جزءاً من العملية السياسية. وسيصاحب ذلك بالضرورة تذكيرات وجهود متواصلة لعرض النصرة «السورية» الجديدة والملمعة جيداً، الأمر الذي سيتطلب استمرار العمل من قبل وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وخاصة «الخبراء في الشأن السوري» الذين لم يدّخروا أي جهدٍ لتقديم مساهمتهم في هذا المجال.
لقد رأينا بالفعل بعض هذه الجهود على مدار الأسبوعين الماضيين في سياق أفغانستان، بما في ذلك جهود «خبيرة» مقيمة في الولايات المتحدة وتحمل الجنسية «الإسرائيلية» هي إليزابيث تسوركوف، التي غردت قبل أسبوع «على عكس طالبان، فإن هيئة تحرير الشام، تخلت عن حظر التدخين، ولم تحظر الهواتف الذكية، ولم تجبر مشغلي الهواتف المحمولة على إغلاق شبكاتهم ليلاً، ولم تحظر التطعيم ضد شلل الأطفال (كما فعلت طالبان في 2018). الجماعات الجهادية تختلف في كيفية حكمها».
تغريدة تسوركوف جاءت في سياق دعم رأي «خبيرة» أخرى، هي دارين خليفة، التي تعمل مع مجموعة الأزمات الدولية والتي كانت بالمصادفة البحتة إحدى الذين التقوا مع الجولاني العام الماضي في إدلب وكتبوا تقريراً كان واحداً من أهم محاولات تبييض النصرة. تغريدة خليفة التي أشارت إليها تسوركوف كانت كالتالي: «في إدلب الإسلاميون المسؤولون استبداديون لكن (على عكس سجل حركة طالبان) لم يفرضوا تفسيرات قاسية للشريعة، ولم يحرموا النساء من التعليم، ولم يجبروهن على إخفاء وجوههن. إنه مستوى منخفض ولكن هذه الفروق الدقيقة تنطوي على اختلافات كبيرة في حياة الناس».
بطبيعة الحال، بالنسبة لنا كسوريين، ما يجعل النصرة غير سورية ليس مجرد وجود عناصر أجنبية فيها، بل لأن رؤيتها ومشروعها ليسا سوريين ولا وطنيين. بدلاً من ذلك، تمتلك النصرة أجندة طائفية ومتطرفة وإقصائية، يستحيل الالتقاء بها مع أي من الأطراف السورية الأخرى في مشروع وطني شامل.
ثانياً: النظر في ما تفعله الولايات المتحدة حيال النصرة، بالإضافة إلى الشمال الشرقي، حيث يؤدي سلوكهم إلى تصعيد التوترات إلى أعلى المستويات، وكذلك الحماس الذي يبدونه اتجاه التوترات في الجنوب السوري. النظر في مستويات التوتر هذه، يهيئ (من وجهة النظر الأمريكية) الظروف المثالية لـ «انسحاب مفاجئ» من سورية.

الانسحاب الأمريكي نعمة علينا الاستفادة منها

إن الهدف المفترض والمطلوب من مثل هذا «الانسحاب المفاجئ» هو دفع البلاد نحو دوامة من الفوضى الشديدة الوطأة التي قد تؤدي إلى انفجار هائل يؤدي إلى اشتعال البلاد والمنطقة لعقود قادمة.
ومع ذلك، نظراً لأنّ الأحمق فقط، الذي لا يعرف التاريخ مطلقاً، هو وحده من سيفاجأ بالانسحاب الأمريكي من سورية، فإنّ لدينا القدرة على الاستعداد بأفضل ما يمكننا لمثل هذا السيناريو ونزع فتائل التفجير المحتملة، والاستفادة إلى الحدود القصوى من نعمة جلاء البلوى الأمريكية عن أرضنا؛ لأنّ انسحابهم، في حال تمكنا من تحويله إلى زناد قادح للحل السياسي الشامل ولتنفيذ فعلي للقرار 2254، انسحابهم سيكون نعمة حقيقة على البلاد والعباد...

(النسخة الإنكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1033
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 آب/أغسطس 2021 22:39