أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة!

أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة!

ترتدي المحاولات الأمريكية لتعويم النصرة ورفع الصفة الإرهابية عنها شكلاً جديداً مع انتشار فيروس كورونا. بين العوامل الأساسية التي تدفع واشنطن للانخراط في سردية جديدة حول النصرة، اتفاق 5 آذار بين الرئيسين الروسي والتركي، والذي يبدو أنه وضع أسوأ الكوابيس الأمريكية بما يخص سورية موضع التطبيق...

نشر مركز (معهد واشنطن- washington institute) في الأول من نيسان الجاري تقريراً بعنوان (الحكومات الثلاث في سورية في مواجهة فيروس كورونا- Syria’s Three Governments Confront the Coronavirus).

كتّاب التقرير الذي يُفترض أنه مخصص لرصد استعدادات سورية للتعامل مع الوباء العالمي، لا يكلّفون أنفسهم عناء الإيحاء بأنّ التقرير «إنساني» بحت؛ على العكس من ذلك، يبدو أنهم ليسوا مكترثين كثيراً في حال ظهر تقريرهم استثماراً سياسياً مباشراً في مصيبة كورونا... المهم فقط هو تسويغ التوجهات السياسية لواشنطن اتجاه سورية.

يظهر هذا «الاستثمار» ابتداءً من عنوان التقرير الذي سرعان ما تتضح معالمه للقارئ؛ فالمقصود بالحكومات الثلاث: (النظام، الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، و«حكومة الإنقاذ» في الشمال الغربي).

«تكنوقراط»!

ولكي ننحي إمكانيات إساءة فهم غايات معدي التقرير، ينبغي التأكيد على مسألتين؛ الأولى: لو أنّ الغاية هي البحث في استعدادات وإمكانيات المناطق السورية الثلاث المختلفة لمواجهة كورونا، لكان من الأسهل وصف الأمور وفقاً لتقسيم جغرافي أو حتى بالقول بثلاث أنماط مختلفة في «الإدارة»، وهو ما اعتمدته دراسة قام بها (فريق سوريا في برنامج بحوث النزاعات في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية)، هي أقرب لأن تكون دراسة موضوعية جادة رغم أن لدينا بعض الملاحظات عليها. بالمقابل فإن القول بثلاث «حكومات»، ليس سقطة أو سهواً يمكن لمركز بحثي بمستوى «معهد واشنطن» أن يقع فيهما. ولكن يمكن بالتأكيد لهذا المركز الممول من آيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية "الإسرائيلية"- AIPAC) أن يستخدم توصيفات من هذا النوع.

المسألة الثانية، هي أنّ «حكومة» الشمال الغربي التي يتحدث عنها التقرير، هي صراحة «حكومة الإنقاذ»، أي الجسم المدني التابع للنصرة، وليست حتى ما يسمى «الحكومة المؤقتة» التابعة للائتلاف. بل إنّ التقرير لا يذكر هذه الأخيرة إطلاقاً، لا من قريب ولا من بعيد، مصوراً الأمور في كامل الشمال الغربي على أنها (من الناحية المدنية) خاضعة لما يسمى «حكومة الإنقاذ». أكثر من ذلك، فإن التقرير –وبما يشبه الفكاهة السوداء- يسبغ على هذه الحكومة (حكومة النصرة) صفة «تكنوقراط»! بما يعني أنها حكومة بلا أجندة سياسية، بل مجرد حكومة مدنية إدارية مكونة من خبراء، ناهيك عن غياب أي إشارة إلى الصفة الإرهابية لـ«هيئة تحرير الشام» من النص بأكمله.

توزيع الميداليات

وفي سياق المقارنة بين استجابة «الحكومات الثلاث» لوباء كورونا، يمكن للقارئ أن يلاحظ مشهداً يشبه توزيع الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية في ختام الفعاليات الرياضية: الذهبية تذهب لـ«الإنقاذ» التي هي (حكومة تكنوقراط لكن تنقصها الموارد)، الفضية تذهب لـ«الإدارة الذاتية»، أما البرونزية فتنالها «حكومة دمشق»، وتنالها لأنها المنافس الثالث ضمن ثلاثة متنافسين.

بطبيعة الحال، لسنا بوارد مجادلة أصحاب التقرير حول مدى «عدالتهم» في توزيع الميداليات، فتقييمنا العام أنّ الاستجابة في مختلف المناطق السورية، ومن أصحاب النفوذ المختلفين على امتداد سورية، هي في حدودها الدنيا بل وتحت تلك الحدود، ليس في الجانب الصحي فحسب، بل قبل ذلك في الجانب الأكثر حسماً في مدى قدرة الفيروس على افتراس السوريين، ونقصد به الجانب الاقتصادي- الاجتماعي، المعيشي خاصة؛ إذ لن ينفع أي حجر منزلي مع أولئك الذين (في الظروف "الطبيعية") بالكاد يجدون ما يطعمون به أولادهم، فكيف يفعلون وهم وراء أبواب بيوتهم المغلقة والخاوية بالتكافل بين الفساد الكبير الداخلي والعقوبات الغربية! اللعبة الأمريكية التقليدية والمكررة، هي وضع الناس أمام جملة خيارات سيئة بوصفها الخيارات الوحيدة المتاحة، وهو ما درجنا على تسميته «الثنائيات الوهمية» والتي يؤدي الاصطفاف وفقها إلى النتائج الكارثية التي يريدها الأمريكي بالذات، وذلك بغض النظر عن أي صفٍ سيأخذه السوري ضمن هذه الثنائيات.

غاية التقرير؟

يعبّر كتاب التقرير صراحة عن توصيتهم الأساسية ابتداء من المقدمة: «كانت إدارة المتمردين في إدلب، والحكومة التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي، أكثر استباقية وشفافية من نظام الأسد، لكن سكانها لا يزالون بحاجة إلى مساعدة دولية عاجلة ومباشرة - دون الحاجة إلى الأمم المتحدة إذا لزم الأمر».

شكلياً، فإنّ التوصيات التي تصيغها مراكز الأبحاث الأساسية في الولايات المتحدة هي توصيات للحكومة الأمريكية يمكن أن تأخذ بها هذه الأخيرة أو تتركها. ولكن عملياً، فإنّ توصيات مراكز الأبحاث، عادة ما تلعب دور «التسويغ النظري والأخلاقي وإلخ» للقرارات الحكومية المتخذة مسبقاً. (ليست مصادفة على الإطلاق أن الاسم الانكليزي لمراكز الأبحاث السياسية والاقتصادية هو think tank، والتي يمكن أن نترجمها حرفياً إلى خزان التفكير، أو مصفحة التفكير وهي الموقع الحصين الذي كان يجتمع فيه القادة العسكريون على خطوط الجبهات لمناقشة ووضع الخطط الحربية، بمعنى أن هذه المراكز هي جزء من الترسانة الحربية الشاملة، وهو ما ينطبق بشكل كامل على مراكز الأبحاث الأمريكية من هذا النوع، ابتداءً من كارنيغي 1911).

تعيدنا «التوصية» التي يخرج بها تقرير معهد واشنطن، إلى الكلام الأمريكي المتكرر عن ضرورة تجديد فتح معبرين أحدهما مع الشمال الشرقي والآخر مع الشمال الغربي أمام «المساعدات الإنسانية العابرة للحدود». ولا بد أن نتذكر هنا تصريحاً لجيمس جيفري يوم 30 آذار الماضي نشرته صفحة السفارة الأمريكية في دمشق على فايس بوك، يقول فيه: «قدرة المجتمع الدولي على تقديم المساعدة الإنسانية تكتنفها التعقيدات بسبب الإجراءات الروسية السخيفة والتي تمت إدانتها على نطاق واسع في مجلس الأمن الدولي في كانون الثاني/يناير لإغلاق نقطة العبور الوحيدة للمساعدات الإنسانية التي سمحت بها الأمم المتحدة إلى تلك المنطقة»، وبذلك يكشف لنا جيفري عن قلبه العطوف تجاه السوريين!

واشنطن «ذات القلب الرحيم»

تساعدنا هذه الأيام، معاينةُ الاستجابة الأمريكية لفيروس كورونا، ليس في سورية أو في اليمن أو في أوروبا أو في أي مكان آخر، بل بالضبط في الولايات المتحدة نفسها، في إزالة الغشاوة التي أعشت نظر الكثيرين طوال سنوات مضت؛ إذ بات من السهل تصديق ما قلناه مراراً من أنّ النخبة المالية الحاكمة في الولايات المتحدة لا تبالي بحياة الشعب الأمريكي نفسه، فأي درجة من الحماقة ينبغي أن يبلغها إنسان ما حتى يصدق أنّ النخبة الأمريكية تهتم حقاً بحياة السوريين؟ السوريين أنفسهم الذين وصفهم رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكي السابق جون برينان المشهور بوقاحته بأنهم «قبل جيلين فقط، بل حتى جيل واحد، كانت هذه مجتمعات رُحّل، ذات تقاليد راسخة الجذور، ونظرة ريفية إلى العالم»!

ثلاث حكومات... حرب واحدة

بكلام أكثر وضوحاً، فإنّ ما سعت وتسعى إليه واشنطن، هو تثبيت حالة انقسام سورية إلى ثلاثة أجزاء منفصلة ومتقاتلة بين بعضها البعض وداخلياً، هو تثبيت «ثلاث حكومات» والاعتراف بها جميعها، وفي وقت واحد. أمر كهذا، يحتاج جملة إجراءات بينها على سبيل المثال لا الحصر، إعاقة أي حوار بين الشمال الشرقي ودمشق. تثبيت عزلة المناطق السورية الثلاثة وانفصالها عن بعضها البعض، يتطلب أيضاً الحفاظ على انعدام الترابط الاقتصادي بينها، وعلى خلق حالة اعتماد على الخارج لكل من هذه المناطق الثلاث بربطها اقتصادياً ومعيشياً مع دول مجاورة، وعبر الحدود، وباستخدام ذريعة «معبر المساعدات الإنسانية» ضمناً.

هذا كله يصب في نهاية المطاف في الهدف الأمريكي الأساسي في سورية: الحفاظ على حالة الحرب وحالة استنزاف الخصوم، ومنع الوصول إلى حل نهائي عبر تطبيق 2254. لأن الوصول إلى الحل يعني إظهار ميزان القوى الدولي الحقيقي عبر النموذج السوري الجديد؛ أي إظهار نهاية العصر الأمريكي لا في منطقتنا فحسب، بل وفي العالم بأسره، لما تمثله المسألة السورية من تكثيف للصراع الدولي بأسره.

ولأولئك الذين يشككون بما نقوله عن السعي الأمريكي إلى الاعتراف بثلاث حكومات في وقت واحد، أنْ يراجعوا خطاب ترامب يوم 19 آذار الماضي، الخطاب الذي مرّ دون أن توليه وسائل الإعلام اهتماماً كبيراً لدواعٍ مفهومة وواضحة: «لدينا رجل شاب، اسمه أوستن تايس، ونعمل بجد كبير مع سورية لإطلاق سراحه. نتمنى من الحكومة السورية (ولم يقل النظام السوري) أن تقوم بذلك، نحن نعتمد عليهم ليقوموا بذلك. كتبنا رسالة لهم مؤخراً فقط. هو معتقل منذ فترة طويلة... نحن نقوم بكل ما يكمننا، لذا: سورية، نرجوكم، اعملوا معنا، ونحن سوف نقدر قيامكم بإخراجه. فكروا بما قمنا به عبر التخلص من خلافة داعش، وسوف نرى إن كانت سورية ستقوم بتحريره وذلك سوف يكون مقدراً بشكل كبير من جانبنا»... ولعل هذا الخطاب نفسه، يقدم نموذجاً إضافياً عن كيف يحكم «قلب واشنطن الرحيم» سلوكها وأفعالها؛ فخوف ترامب على الصحفي الأمريكي (وهو بالمصادفة أيضاً ضابط استخبارات سابق)، هو فقط ما يدفعه إلى مخاطبة «النظام السوري» بـ«الحكومة السورية» و«نرجوكم» و«اعملوا معنا»... ومرة أخرى، يحتاج المرء فعلاً، إلى قدر فلكي من البلاهة والحمق ليصدق دوافع واشنطن «النبيلة».

«مصادفات»

ينطلق أي رجل عِلم، وأياً يكن تخصصه، من حقيقة أنّ تكرر ظاهرة ما أكثر من مرة، يخرجها من حقل المصادفة، ويدخلها في إطار القانون العلمي الذي ينبغي العمل لاكتشافه. ولذا فإنّ المصادفات المتكررة هي التعبير الساخر عن الرغبة في إخفاء القانون، في إخفاء الحقيقة.

ضمن حقل «المصادفات» المتعلقة بموضوع مادتنا، يمكننا أن نشير إلى المقابلة التي أجرتها «مجموعة الأزمات الدولية – International Crisis Group» يوم 20 شباط الماضي مع زعيم النصرة أبو محمد الجولاني، (والتي سبق أن كتبنا عنها بالتفصيل في العدد 954 من قاسيون تحت عنوان: المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني!)، وكذلك إلى تصريح جيفري الشهير يوم 30 كانون الثاني 2020، والذي لوح فيه صراحة بإمكانية رفع النصرة من قوائم الإرهاب. وإلى هذا التوافق «التصادفي» بين الجولاني وجيفري، يمكن أن نضيف جملة توافقات أخرى بينهما، وخاصة فيما يتعلق بالموقف المستجد من تركيا!

مزيد من «المصادفات»

في الوقت الذي يتجنب فيه تقرير معهد واشنطن الإتيان بأي إشارة إلى ما يسمى الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، والتي ليس سراً أنها تابعة بشكل كامل تقريباً لتركيا، يظهر تسجيل صوتي مسرب للإرهابي المصري القيادي في النصرة أبو الفتح (يحيى) الفرغلي (ظهر جزء من التسجيل في نهايات آذار الماضي، ثم قام الفرغلي نفسه بنشره كاملاً في الأول من نيسان على حسابه على تيلغرام، أي في اليوم نفسه الذي نشر فيه معهد واشنطن تقريره).

في التسجيل، يعبّر الفرغلي وضوحاً عن انتقال العلاقة بين النصرة وتركيا إلى مرحلة جديدة بالكامل، مرحلة ينتهي فيها «التعايش الاضطراري»، وينفتح باب العداء المباشر والوجودي. هذا الانتقال هو جوهر «المحاضرة الشرعية» التي ألقاها الفرغلي على مجموعة من قيادات النصرة، وإنْ كانت –كما هو متوقع- ارتدت شكل التشريع الديني انطلاقاً من اعتبار الجيش التركي مؤسسة كافرة، والجنود الأتراك أفراداً مرتدين، وأنّ ما كان بين النصرة وبين تركيا هو اتفاق مؤقت على مبدأ «الاستعانة بالكافر على الكافر»، وأنّ هذه المرحلة قد انتهت وبات القتال أقربَ إلى أن يكون الطريق الوحيد المتبقي للعلاقة بين النصرة وتركيا.

يتناول سام هيلر Sam Heller الباحث في موقع warontherocks.com، تسجيل الفرغلي بالتحليل المعمق في مقال له بعنوان «تسريب يكشف عن ضعف قبضة الجهاديين على إدلب». وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما يقوله هيلر، إلا أنه (من وجهة نظرنا) يصيب كبد الحقيقة في نهاية مقاله حين يقول: «التسجيل المسرب هذا، ربما يشير إلى أن نوع الترتيبات الروسية- التركية الجديدة (ويقصد بروتوكول 5 آذار)، أكثرُ قابلية للتطبيق من أي وقت مضى خلال السنوات السابقة».

بهذا المعنى، يصبح من المفهوم تماماً، لماذا تسعى الولايات المتحدة، اتكاءً على كورونا، إلى إيجاد وسيلة «إسعافية» لمنع القضاء على النصرة، خاصة مع فشل المحاولات السابقة التي وصلت ذروتَها مع حادثة مقتل الجنود الأتراك، التي جرت محاولة اتهام روسيا بالقيام بها، بالتوازي مع تحضيرات باتت شبه مكشوفة لانقلاب في تركيا، وما تلى ذلك من ترقيع لفشل تفجير أستانا عبر إعلان كيلي كرافت ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن عن «موت أستانا». دُفن هذا الإعلان في مهده، كما دُفن إعلان جيفري عن موت عملية أستانا نهاية عام 2018، وستضطر كرافت للتعامل مع أستانا مجدداً، كما اضطر جيفري للتعامل معها بعد إعلان موتها ولا يزال، بل وإلى إزجاء المديح لها في بعض المناسبات.

خلاصة

يتفق معهد واشنطن مع الفرغلي، كما اتفق جيفري مع الجولاني، في أنّ الحفاظ على النصرة و«حكومتها»، سواء تحت ذريعة كورونا، ومن خلال شرعنة و«سورنة» النصرة، أو حتى عبر «التحليل الشرعي» للعمل العسكري المباشر ضد تركيا، هو أمر لا غنى عنه بالنسبة لواشنطن، لأنّه أداة أساسية في منع تطبيق اتفاق سوتشي، وبالتالي في منع السير نحو تنفيذ 2254.

معلومات إضافية

العدد رقم:
961
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 13:02