افتتاحية قاسيون 1056: ما الذي يعنيه رفع الدعم اليوم؟

افتتاحية قاسيون 1056: ما الذي يعنيه رفع الدعم اليوم؟

تحت مسمى «إعادة توزيع الدعم لمستحقيه»، جرى خلال الأيام القليلة الماضية إخراج ما يزيد عن نصف مليون أسرة سورية، أي حوالي 3 ملايين سوري، من فئة «مستحقي الدعم». وهو الأمر الذي انعكس مباشرة برفع سعر ربطة الخبز الواحدة لهؤلاء إلى 1300 ليرة سورية، أي إنّ تكلفة الخبز وحده إذا استهلكت أسرة من 5 أشخاص ربطتين يومياً ستصل شهرياً إلى 78 ألف ليرة سورية، أي إنّ الخبز وحده بات يستهلك تقريباً كامل وسطي الأجر.

منذ الستينيات من القرن الماضي، كانت سياسة الدعم اعترافاً من الدولة بأنّ الأجور لم تكن كافية؛ أي إنّ وسطي الأجور كان أقل من أن يؤمن الحد الأدنى لمستوى المعيشة.

والدعم بهذا المعنى، لم يكن غاية بذاته في أي يومٍ من الأيام، بل كان شكلاً من أشكال التوزيع الثانوي للثروة، هدفه تعويض أصحاب الأجور- وبشكل جزئي- عن تدني أجورهم عن الحد الأدنى لاحتياجات معيشتهم.

الميل التاريخي للدعم بعد الستينيات كان متصاعداً، وأيضاً كتعويض جزئي عن الارتفاع المتزايد للهوة بين الأجور والأسعار، وبين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح. ومنذ تبني ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005، ورغم استمرار الهوة نفسها بالاتساع، إلا أنه جرى عكس الميل التاريخي، والاتجاه نحو تخفيض الدعم التدريجي، وهو ما نرى استكماله الآن.
يمكن لرفع الدعم أن يتمم بحالة واحدة هي: أن تكون الأجور كافية. والأجور اليوم ليست غير كافية فقط، بل تكاد تكون بلا قيمة مقارنة بمتطلبات المعيشة.

يعود انخفاض القدرة الشرائية للأجور إلى عوامل عديدة، أبرزها هو: انخفاض سعر صرف الليرة السورية، بالتوازي مع الانتقال الذي جرى من احتكار الدولة لاستيراد المواد الغذائية الأساسية، إلى فتح باب اشتراك كبار التجار في هذه العملية، ومن ثم وصولاً إلى تسليم هذا الاحتكار بأكمله لكبار التجار.

وإذا كان وضع الأجور في سورية اليوم، معروفاً وواضحاً مقارنة بمستوى المعيشة، فما الذي يعنيه رفع الدعم، غير أنه قولاً واحداً: تنفيذٌ لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين؟

تلك التوصيات التي استهدفت الدعم ليست في سورية فقط، بل وفي كل البلدان التي سبق لها في أواسط القرن الماضي أن قامت ببعض الخطوات باتجاه العدالة الاجتماعية، وباتجاه بناء اقتصادات ذات إنتاجية عالية.

يضاف إلى ذلك، ومن وجهة نظر مصلحة أصحاب الأرباح في الداخل، أنّ رفع الدعم التدريجي، وإنْ كان في بداياته، وفي أحد أوجهه، تعبيراً عن حاجة الفاسدين الكبار الذين امتلأت جيوبهم عبر نهب القطاع العام بالدرجة الأولى، إلى تحويل سرقاتهم من «تحت البلاطة» إلى الاستثمار، و«بشكل شرعي»، فإنه يعني اليوم أشياء إضافية أشد خطورة، من بينها:

أولاً: إنهاء أية هوية إنتاجية حقيقية للاقتصاد السوري، وتحويله بشكلٍ نهائي إلى اقتصاد مساعدات وضرائب ومضاربات وأعمال غير مشروعة.

ثانياً: إفقار الناس إلى هذه الدرجة، يعني دفعهم نحو الانخراط الإجباري في الأنشطة السوداء التي باتت مصدراً أساسياً للتموّل بالنسبة للفاسدين الكبار المتحكمين بتقاليد الأمور، ويعني دفع البلد بأسرها إلى مسرحٍ لاقتصاد الجريمة بأنواعه وفروعه المختلفة. ويعني تدميراً مباشراً لأسس وجود الدولة، ولأسس ترابط المجتمع، وضمناً تدميراً لأخلاقيات المجتمع وثقافته وبنيته النفسية العامة لسنوات عديدة لاحقة...

ثالثاً: إفقار الناس إلى هذه الدرجة، يعني العمل لتطويعهم نحو القبول بكل الخيارات وبأية خيارات، بما فيها تلك التي تتضمن انزياحات كبرى عن التموضع التاريخي لسورية...

عملية رفع الدعم الجارية، وإذْ تهدد الدولة والمجتمع معاً، فإنها تعيد التأكيد على مهمة الحل السياسي وتنفيذ القرار 2254 كمهمةٍ عاجلة لتحقيق التغيير الجذري الشامل، السياسي والاقتصادي- الاجتماعي...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1056
آخر تعديل على الأحد, 13 شباط/فبراير 2022 19:11