من غاز أمريكا وحلفائها والصراع مع الروس إلى التكاذب الإقليمي والدولي في منطقتنا
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

من غاز أمريكا وحلفائها والصراع مع الروس إلى التكاذب الإقليمي والدولي في منطقتنا

تأتي المساعي الأمريكية لتأمين ما تيسّر من قطرات الغاز الطبيعي المسال من أيّ مصدر قد «تمون عليه» من كوريا الجنوبية إلى اليابان وقطر وحتى أذربيجان، كخطوة تعتقد واشنطن أنها قد «تحرّر» بواسطتها أوروبا ولو مؤقتاً وقليلاً من ضغط اعتمادها على الغاز الروسي، وأنها قد تجرّ بذلك بعض المتردّدين أو الخائفين في أوروبا للانزلاق إلى درك أعمق من العدوانية وقرع طبول الحرب ضدّ روسيا. لكن حتى صحيفة «وول ستريت جورنال» نفسها شكّكت بإمكانية جمع الكمية المطلوبة وهي أكثر من 10 مليارات متر مكعب (حوالي 6% من سوق هذه السلعة) لترسلها إلى أوروبا التي تستورد 70% من إجمالي صادرات الغاز المسال الأمريكي، في حين قال مصدّروه الأمريكيون: إنهم قدّموا أقصى ما يستطيعون. فما مدى جدّية الحديث عن الغاز القَطَري في هذا الشأن؟ وما الثمن السياسي والاستراتيجي المترتب على قَطَر وغيرها في حال تقاربوا أكثر مع واشنطن التي تحاول ترتيب تَرِكَة «فوضاها» قبل استكمال انسحاباتها الاضطرارية من تاريخ «القرن الأمريكي»؟

لا جدال بأنّ روسيا هي مصدر الغاز الأضخم والأرخص والأسهل للقارة الأوروبية، عبر شبكة الأنابيب العابرة لبيلاروسيا وأوكرانيا. ووصف ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين في 24 كانون الثاني الماضي فرضية «قطع الغاز الروسي» بأنها «مثال رائع إضافي على هستيريا وهمية».
وتأتي زيارةُ أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني لواشنطن، الإثنين 31 كانون الثاني الماضي، ولقاؤه بايدن وبلينكن وأوستن وغيرهم، لتتضمّن ملف الطاقة دون أن تقتصر عليه، فعلى الأجندة أيضاً شؤون إقليمية ودولية كالملف الإيراني والأفغاني والفلسطيني...
ويأمل بايدن من قطر (المالكة لثالث أكبر احتياطي للغاز بعد روسيا وإيران) أن توجِّه بعض ناقلات غازها المسال إلى أوروبا في حال تدهور الأوضاع. أما عن «المكافأة» الأمريكية فظهر منها حتى الآن: إعلان البيت الأبيض في اليوم نفسه منح قطر تصنيف «حليف رئيسي من خارج الناتو» على غرار عدد من الدول قبلها، مثل: مصر والبحرين والكويت وتونس والمغرب والأردن، وأستراليا واليابان والفلبين، إضافة إلى كيان الاحتلال «إسرائيل». الأمر الذي يعني وفق قناة CNN الأمريكية «الاستفادة من المخزون الاحتياطي الحربي الأمريكي بالإضافة للسماح لشركات خاصة من هذه الدول للتنافس على عقود لصيانة وتصليح وترميم المعدات العسكرية الأمريكية... وإمكانية توقيع اتفاقيات مع الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء تدريبات مشتركة»، ولكن بالطبع بخلاف العضوية في الناتو، فإنّ واشنطن غير ملزمة تقليدياً بالدفاع عن «الحليف غير الناتوي» في حالة التعرض لهجوم عسكري.
والمكافأة الثانية على ما يبدو، السماح لقطر بإبرام صفقة مع شركة «بوينغ» لشراء 34 طائرة شحن من طراز «777 إكس» مع إمكانية إضافة 16 أخرى. ووفق قناة الجزيرة القطرية، يتجاوز حجم الشراكة الاقتصادية بين قطر والولايات المتحدة 200 مليار دولار.

لن يكفي الغاز الأمريكي ولا القطري ولا الأذري

تتوقع واشنطن مدى زمنياً قصيراً لتحويل المطلوب من شحنات الغاز المسال في العالَم إلى أوروبا، خلال أقل من شهر. ويتسابق المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون مع الزمن لإيجاد بدائل قصيرة الأجل لإعادة ملء الاحتياطيات المستنفدة.
ووفقاً لـ«وول ستريت جورنال» كان هناك يوم 27 كانون الثاني الماضي أكثر من 24 ناقلة في طريقها من الولايات المتحدة إلى أوروبا، بإغراء من أسعار الغاز المرتفعة هناك. ولم تكن 33 ناقلة أخرى قد حددت وجهتها بعد، ولكنهم رجحوا وصولها إلى أوروبا أيضاً. ولكن الصحيفة نفسها لفتت إلى أنّ هذه الأرقام «لن تعوّض سوى عن جزء صغير» من الإمدادات الروسية في حال توقفت هذه الأخيرة كلّياً، نقلاً عن شركة تحليلات النفط Vortexa Inc.
ولنقارن بين قطر والولايات المتحدة، فإنّ هذه الأخيرة أرسلت 42 شحنة غاز مسال إلى شمالي غرب أوروبا (أكبر سوق في المنطقة) ما يشكل سبعة أضعاف ما شحنته قطر (6 شحنات فقط) إلى ذلك السوق المربح نفسه خلال الفترة نفسها (منذ منتصف كانون الأول 2021 حتى أواخر كانون الثاني 2022).
ويبدو أن إعادة تحويل بعض الغاز القطري إلى أوروبا، محكومة بمحدوديات على مستويين: سياسي واقتصادي.
فعلى المستوى السياسي، نقلت الصحيفة الأمريكية نفسها عن مستشار قطري لم تذكر اسمه قوله: «سياسياً، نحن حريصون جدًا على مساعدة كل من الولايات المتحدة وأوروبا، لكن في الواقع لا يمكننا الابتعاد عن التزاماتنا طويلة الأجل تجاه آسيا ولو لفترة قصيرة» مضيفاً بأنه «سيتعين على الولايات المتحدة واللاعبين الآخرين في أوروبا بذل الكثير من الإقناع هنا».
أما على المستوى الاقتصادي المباشر، فإنه حتى لو تمكنت قطر من تأمين بعض الغاز لأوروبا فإنّ «الأحجام ستكون أصغر من أن تحدث فرقًا كبيراً» وفق ما أوردت بلومبيرغ، مذكرةً بما أعلنه وزير الطاقة القطري سعد الكعبي في تشرين الأول 2021 بخصوص إنتاج وتصدير بلاده للغاز: «لقد بلغنا الحد الأقصى... نحن ننتج ما في وسعنا» مضيفاً بأنّ صادرات الغاز الطبيعي المسال القطرية تبلغ نحو 80 مليون طن سنوياً.
يضاف إلى ذلك، أنّ قطر مرتبطة فعلاً بعقود توريد غازٍ استراتيجية الطابع مع عدد مهم من بلدان شرق آسيا، وعلى رأسها بطبيعة الحال الصين. وهذا النوع من العقود لا يقتصر على توريدات الغاز فحسب، بل يشكل جزءاً من حزمة عقود تتضمن جملة من الاستثمارات المتبادلة التي لا يمكن النكوص عنها ببساطة بمجرد أراد السيد الأمريكي ذلك.
ولذلك فإنّ قطر عاجزة عن ضخ ما يكفي من الغاز لخفض الأسعار التي حلّقت لمستويات قياسية العام الماضي مع تفاقم أزمة الطاقة المتزامن مع الانتعاش النسبي للاقتصاد العالمي من جائحة كورونا.
ويعتقد المسؤولون الأوروبيون بإمكانية المضاعفة السريعة للغاز الذي تضخه أذربيجان في الخط المار عبر تركيا إلى جنوب أوروبا، بعد تركيب مضخات أقوى على طول الطريق، ولذلك يحضر مفوَّض الطاقة في الاتحاد الأوروبي، قادري سيمسون، في مؤتمر للغاز في باكو يوم الجمعة 4 شباط.

1056-101

مشكلات الإسالة والشحن لدى المصدّرين من وراء البحار

لفتت صحف أمريكية- مثل: وول ستريت جورنال- إلى أن زيادة إنتاج الغاز ليست العقبة الرئيسة الحائلة دون قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، أو غيرها على دعم أوروبا بالغاز، فحتى بفرض زيادة الإنتاج تقنياً، تبقى مشكلة الاختناقات بالنقل والشحن إلى الخارج، حيث لا تملك الولايات المتحدة سوى عدد محدود من محطات إسالة الغاز الضرورية لنقله لمسافات طويلة، كما أن هذه المنشآت تعمل سلفاً بالفعل بطاقتها شبه القصوى منذ شهور.

مشكلات البنية التحتية لدى المستوردين الأوروبيّين

كمثال على الصعوبات اللوجستية والبنية التحتية غير الجاهزة في الاتحاد الأوروبي تجاه طوارئ الغاز، تجدر الإشارة إلى أنّ إسبانيا التي رغم إطلالتها الجغرافية على المتوسط وقربها من الجزائر كمورد محتمل، لكن لا تملك شبكة ربط بأوروبا القارية في الداخل لنقل الغاز إلى باقي بلدانها، رغم أن إسبانيا تملك مرافئ لاستقبال الغاز المسال. بالمقابل، فإنّ ألمانيا أكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي، لا تملك حتى منشآت المرافئ المجهزة لاستقبال الغاز المسال المستورّد، وستحتاج إلى الاعتماد على فرنسا أو بولندا أو غيرها لذلك. وهذه مشكلة بهندسة الاتحاد الأوروبي نفسه، وتبرز إخفاقات في اندماج اقتصاداته وتكامل أعضائه بالذات.
اعترافات أوروبية: لا بديل عن الغاز الروسي
تؤمّن روسيا حوالي 40% وسطياً من حاجة الغاز الطبيعي للكتلة الأوروبية المؤلفة من 27 بلداً، وتصبح النسبة أعلى في ألمانيا المعتمدة على الغاز الروسي بأكثر من 50%. وإذا سمحت ألمانيا ببدء تدفقه عبر «السيل الشمالي2» ستتضاعف كمية صادراته إلى ألمانيا، التي يتم توجيهها حاليًا عبر خط أنابيب «السيل الشمالي1».
خلال قمة «هاندلسبلات» للطاقة في ألمانيا التي عقدت في كانون الثاني الماضي (2022)، صرّح ماركوس كريببر، الرئيس التنفيذي لإحدى أكبر شركات الطاقة الألمانية (وهي شركة RWE AG القابضة المتخصصة بتجارة الغاز وتوليد الكهرباء ونقلهما وتوزيعهما) قائلاً بوضوح: «لا بديل عن الغاز الروسي على المدى القصير».
وسبق لدراسة أجريت عام 2015 بتكليف من وزارة الاقتصاد الألمانية لمحاكاة «توقف مفاجئ بتوصيل الغاز الروسي»، أنْ خلصت إلى نتيجة مفادها، أنّ مَرافق تخزين الغاز الألمانية يجب أن تكون ممتلئة بنسبة 60% على الأقل لتلبية الطلب في حال حدث توقف مفاجئ للغاز الروسي. ولكن وفقاً لبيانات جمعية «البنية التحتية الأوروبية للغاز» الصادرة في 19 كانون الثاني 2022 فإنّ الخزانات الألمانية ليست ممتلئة سوى بنسبة 44%، وسرعان ما انخفض هذا المخزون إلى 42% بعد نحو أسبوع (وهي أيضاً النسبة الوسطية لامتلاء احتياطيات الغاز في الاتحاد الأوروبي عموماً يومذاك).

أبعاد أخرى لعمليات الضغط الأمريكي

إذا كانت الحسابات الاقتصادية الصرفة واضحةً بالنسبة لمختلف الدول، وخاصة الأوروبية، بما يتعلق بمسألة الطاقة وخطوطها وتوريداتها، وضمناً الغاز الطبيعي، فإنّ السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو حول طبيعة الغايات الأمريكية الفعلية من وراء الضغط الهائل الذي تمارسه على «حلفائها» لتحقيق هدفٍ معلنٍ يكاد يتفق الجميع على أنه مستحيل التحقيق؟
لا شك أن أبسط الإجابات هي: أنّ الولايات المتحدة تحاول استخدام ملف الغاز في إطار صراعها المفتوح مع الروس، وبالتأكيد إنْ استطاعت الاستفادة بتسويق قسم من غازها المسال فسيكون ذلك مكسباً، اقتصادياً وسياسياً. ولكن هذه الإجابة وحدها أبسط من أن تعكس حقيقة ما يجري.
ولذا يمكن التفكير في الأبعاد الإضافية التالية:
يستخدم الأمريكان ملف الطاقة كجزء من عملية التصعيد الشامل، وليس بغرض استبدال الغاز الروسي بغازٍ آخر، بما فيه القطري أو الأمريكي، وليس حتى بهدف إحداث استبدال جزئي ذي معنى، فلا هذه ولا تلك ستتحقق؛ ولكن بالدرجة الأولى بهدف استخدام هذا الملف كأداة إضافية في عرقلة حركة التقارب الموضوعي التي تزداد عواملها بين أوروبا (وخاصة ألمانيا) من جهة، وبين روسيا من الجهة الأخرى. وربما يمكن حتى فهم «الأزمة الأوكرانية» بأحد جوانبها في الإطار نفسه، أي كأداة في تعقيد العلاقات الأوروبية الروسية، وقل الأمر نفسه عن سياسات العقوبات.

مساحات «تكاذب» جديدة

ضمن مسألة الطاقة نفسها بصورتها العالمية، ظهرت مشاهد فرعية تصب في نهاية المطاف المصب نفسه، ولكنها تبدو أيضاً قائمة بذاتها من حيث غاياتها التفصيلية... من ذلك مثلاً: ما نراه الآن من إنهاء الولايات المتحدة عملياً لتجمّع خط غاز شرق المتوسط (والذي كانت دراسات عديدة تقول مسبقاً بانخفاض أو حتى عدم جدواه الاقتصادية).
هذا الإلغاء، مصحوباً بدور إماراتي مع تركيا، وما جرى الحديث عنه من صفقات، (إذ بات معتاداً أن تلعب الإمارات دور وسيط لـ «الإسرائيلي»، يدفع عنه أعباء دخوله إلى ساحات جديدة)، وكذلك زيارة رئيس كيان الاحتلال إلى تركيا، كل ذلك، وإنْ كان غطاؤه موضوع غاز المتوسط والمناطق المتنازع عليها هناك، إلا أنّه من الواضح أن غاياته أبعد...
فبينما تسعى الولايات المتحدة ضمن هذه الرسمة الوهمية الجديدة- المستندة إلى خط غاز وهمي يمر من قطر صوب تركيا فأوروبا- إلى استمالة تركيا ضمن الحملة الشاملة من التصعيد ضد روسيا، فإنّ تركيا وضمن البراغماتية المعروفة عن سلطاتها، تمثل أنها تصدق هذا الوهم لتكسب مسألة الاعتراف بما تريد من حدود بحرية، بل وتؤدي أدواراً إضافية عبر تكثيف التصريحات والتحركات المتعلقة بالقرم وأوكرانيا، وتستأنف علاقاتها التاريخية مع «إسرائيل»، والتي لم تنقطع بشكل كامل في أية لحظة.
وبطبيعة الحال، فإنّ تعقيد الأمور ضمن ألعاب التكاذب المتبادل هذه، من شأنها أن تعقد الموضوع السوري نفسه... ولكن الجيد في الأمر أنّ موضوع التكاذب القائم شديد الهشاشة باعتماده على الغاز من جهة، وباعتماده على إمكانية مفترضة للاستمرار في حالة التصعيد حول أوكرانيا... وذلك في الوقت الذي تبدو فيه المؤشرات أكثر وضوحاً بأنّ المسألتين لا تسيران بالطريقة التي تنشدها واشنطن، ولا بالتوقيتات المخطط لها...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1056