الافتتاحية إنما الأعمال بالنتائج..
في حديثه الأخير في 18 حزيران أمام جمعية رجال وسيدات الأعمال السورية أكد نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري: «أنه لن يكون هناك قانون لإصلاح القطاع العام الصناعي، وإنما ستكون هنالك عملية تدريجية من خلال معالجة المنشآت كل واحدة على حدة..».
يأتي هذا التصريح بعد أن رفضت اللجان المختصة في مجلس الشعب مشروع القانون المقترح، وخاصة ما أتى فيه حول إمكانية تأجير بعض منشآت القطاع العام لمدة طويلة جداً من الزمن..
وعوضاً من أن يقوم مقترحو القانون بإعادة النظر بتلك الفقرات التي لم تلق القبول، تجاهلوا النقاش، وقفزوا فوق نتائجه، وهم يقومون الآن بعملية التفافية ليمرروا على أرض الواقع ما لم يستطيعوا تمريره بصيغة قانونية عبر مجلس الشعب.. والسؤال الأهم هو كيف سيعالجون وضع كل منشأة على حدة إذا لم يكن هنالك منظور شامل وضوابط محددة لا تقبل التأويل؟..
نعم.. في الحديث نفسه يقول النائب الاقتصادي: «لا بيع لأصول يملكها القطاع العام»، ولكن ماذا يختلف عملياً تأجير تلك الأصول لمدة 99 عاماً كما اقترح مشروع القانون المرفوض، عن البيع؟ إذاً يصبح واضحاً أن الهروب نحو المعالجة الجزئية التي أسماها تدريجية يهدف إلى تمرير الأفكار نفسها التي لم يتم الاتفاق عليها.. وكنا قد ذكرنا في افتتاحية سابقة على أن عملاً من هذا النوع هو خروج عن الدستور في مادته الرابعة عشرة، والتي تقول صراحة: «إن الدولة تتولى الاستثمار والإشراف على إدارة القطاع العام»، أي ليس لها الحق بتاتاً بالتصرف فيه.. وتؤكد المادة: «أن واجب المواطنين حماية هذه الملكية»، وهم سيقومون بحمايتها إذا امتدت أيدي أياً كان لمسها أو التفريط بها، حتى ولو كانت هذه الجهة لها علاقة بالدولة.. فالدستور واضح ولا لبس فيه..
والملفت للنظر أنه في الوقت نفسه الذي تصدر فيه مثل هذه التصريحات، تقوم بعض الجهات الحكومية بإصدار قوائم طويلة لاستثمار أراضي ومنشآت للقطاع العام لآجال زمنية طويلة جداً، مما سيحوّل هذه الممتلكات إلى ممتلكات خاصة كأمر واقع مع مرور الوقت، فهل الأراضي والمنشآت أصول ثابتة أم لا؟ وما وزن هذا التصريح بنفي بيع أصول يملكها القطاع العام أمام الواقع الملموس؟! الأمر الذي يجعل مصداقية هذا التصريح موضع شكٍّ شديد..
وفي الحديث نفسه يقول حرفياً: «إن المسؤول الذي يقف في وجه الاستثمار في سورية سيتحمل مسؤولية ذلك، فالعرقلة أصبحت غير مقبولة نهائياً، ولن يسمح لأحد أن يعرقل مشروعاً استثمارياً في سورية مهما كبر أو صغر شأن ذلك الشخص..»
ولا شك أن الجميع يتفق مع هذا التوجه وخاصة إذا كانت الاستثمارات موجهة نحو قطاعات إنتاجية، وتلعب دوراً حقيقياً في تطوير البنية الإنتاجية وزيادة الدخل الوطني، وإذا كان المقصود كف يد المتنفذين عن مشاركة المستثمرين في هذه القطاعات الإنتاجية قسرياً.. ولكن السؤال الكبير هو مَنْ الذي قلّص الاستثمارات في القطاع العام الإنتاجي خلال السنوات الماضية؟ من الذي يعيق عمليات الاستبدال والتجديد في هذا القطاع نفسه؟ لماذا لا توجد سياسة استثمارية واضحة للدولة في قطاع الدولة نفسه؟ من المسؤول عن تقليص دور الدولة الاقتصادي؟ أليست كل هذه الأسئلة تشير بشكل واضح إلى أن هناك من يقف بوجه الاستثمار في القطاع العام؟ وهل يصبح ذنبه أخف إذا كان يدعو القطاع الخاص إلى الاستثمار ويعمل على إزالة المعوقات من أمامه، بينما يختلق مختلف الحجج لزيادة المعوقات أمام الاستثمار العام الذي يريد تحويله فعلياً إلى مجال الخدمات الاجتماعية فقط في نهاية المطاف؟.
رغم كل الأرقام الرسمية المعلنة أثبتت هذه السياسات إفلاسها لأنها أدت إلى مزيد من الإفقار للناس وإلى مزيد من تمركز للثروة بأيد قلة قليلة، وهذا الأمر لم يتم مصادفة واستمراره يهدد التطور الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي أي يهدد الأمن الوطني..
نعم ثمة مسؤولون يقفون في وجه الاستثمار في سورية وخاصة في القطاع العام، وهم إذا شجعوه في القطاع الخاص فإنهم يسعون لكي يصب في الدرجة الأولى في المجالات الخدمية غير الإنتاجية.. مما سبب تلك الوزمة التضخمية التي نعانيها اليوم، ويقطف ثمارها المرة ذوو الدخل المحدود عبر مزيد من ارتفاع الأسعار، ومزيد من انخفاض القدرة الشرائية.. وبالتالي مزيد من نمو مشوّه لن يساعد على حل المهام الكبرى المنتصبة أمامنا في ظل الظروف المعقدة والخطيرة في المنطقة، وخاصة في مجال البطالة ومستوى المعيشة وتأمين الخدمات الأساسية للمواطنين من تعليم وصحة وسكن..
وهؤلاء المسؤولون عن هذا الوضع يجب تحميلهم المسؤولية، لأن الأعمال تقاس بنتائجها، وليس بالتصريحات، بل يجب محاسبتهم لوضع الأساس لتغيير اتجاه التطور لبناء اقتصاد قوي مقاوم يستطيع تلبية الحاجات الأساسية للناس الذين تتدهور أوضاعهم يوماً بعد يوم، وفي ذلك ضمانة للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن..