الافتتاحية: تحالفات للتجذير وآفاق للتثمير..

في الوقت الذي تشهد فيه منطقتنا أقصى درجات التوتر بفعل مخططات واعتداءات التحالف الإمبريالي- الصهيوني، تأتي جولة الرئيس بشار الأسد إلى أهم بلدان أمريكا اللاتينية؛ وخاصة فنزويلا وكوبا، استجابةً طبيعيةً لضرورات المرحلة الحالية..

إن التعاون والتحالف بين الذين يعيشون هماً واحداً كان ضرورياً دائماً.. والهم الواحد يبدأ من مواجهة محاولات الهيمنة والعدوان الإمبرياليين ولا ينتهي بمحاولة الانعتاق الاقتصادي.. وإذا كانت هذه العلاقات ضرورة تاريخية، إلاّ أن تحقيق هذه الضرورة اليوم أصبح ممكناً ومناسباً.. لماذا؟

لأن بلدان المراكز الإمبريالية، باعتبارها كما تعتقد، مركز الكون.. كانت لديها القدرة على منع تطور أية علاقات ثنائية أو جماعية بين البلدان المستهدفة بعدوانها ونهبها.. أولاً، لأن العلاقات بين هذه البلدان تخفض دور المراكز الإمبريالية في التبادل، وبالتالي حصتها من السوق العالمية، وثانياً، لأن انفتاح هذه العلاقات بين البلدان المستضعفة تاريخياً، يمكن أن يخلق نموذجاً جديداً لتبادل متكافئ يحل بديلاً مكان التبادل اللامتكافئ الذي تحاول الإمبريالية العالمية فرضه كخيار وحيد للعلاقات الاقتصادية الدولية..

وهي إن استطاعت حتى الآن أن تمنع الانفتاح بين البلدان الأضعف اقتصادياً منها، إلاّ أنها في اللحظة الراهنة، أصبحت أضعف من أن تستطيع استمرار فرض ذلك..

إن علاقات سورية مع أهم بلدان أمريكا اللاتينية التي أخذت اندفاعةً جديدة وهامة في الزيارة الأخيرة، هي نموذج لعلاقات جديدة في النظام الدولي ولكنها ليست النموذج الوحيد، لأن علاقات من هذا النوع تشق وستشق طريقها صعوداً وسريعاً في كل العالم الذي عانى كثيراً من الاستعمارين القديم والجديد.

إن ذلك أصبح ممكناً ومناسباً اليوم تحديدا ًبسبب ارتفاع منسوب مقاومة الشعوب من جهة، وبسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية من جهة أخرى، والتي تفرض معطيات جديدة على الأرض، فهي قد أضعفت قبضة الإمبريالية العالمية وقدرتها على فرض توجهاتها، كما تدفع البلدان التي لا ذنب لها بأسباب هذه الأزمة إلى البحث عن نماذج لا تتسبب بتحميلها أعباء هذه الأزمة كما تريد أن تفعل المراكز الأمريكية..

وكما في كل الأزمات الكبرى، فإن تجارب التاريخ تعلمنا أنه الوقت المناسب لإحداث اختراقات كبرى رغم أنف الرأسمالية العالمية لتغيير ميزان القوى ورسم خرائط عالم جديد.

والأمر هكذا، يصبح مفهوماً تحذيرات الثوري الكبير فيدل كاسترو في تأملاته الأخيرة من حماقات كبرى يمكن أن ترتكبها الإمبريالية الأمريكية في هذه اللحظات بالذات، للحفاظ على هيمنتها ودورها العالمي المهدد بالتراجع والزوال..

إن مثال كوبا البطلة في المقاومة جدير بالدراسة، فهو يعلمنا أنه رغم الحصار الذي تعاني منه منذ عشرات السنين استطاعت أن تحقق معدلات نمو اقتصادي عالية، كما استطاعت أن تتفوق حتى على الولايات المتحدة- الدولة التي تحاصرها- في مؤشرات هامة للتنمية الاجتماعية، من وسطي العمر المحتمل، إلى عدد الأطباء بالنسبة إلى السكان، مروراً بعدد وفيات الأطفال الذي يعد من الأقل في العالم.. والسبب؟

إنها الاشتراكية، أي العدالة الاجتماعية التي تمنع تمركز الثروة بين أيدي قلة قليلة، مانعةً إياها من خدمة الدولة والمجتمع..

لقد برهنت التجربة الكوبية حتى اليوم، والتجربة الفنزويلية اليوم، مع أخواتها الأخرى من أمريكا اللاتينية، أنه يمكن استمرار المقاومة بنجاح وتحقيق نجاحات هامة في آن واحد على صعيد التقدم الاجتماعي الذي يعني تحقيق ذلك النمو الذي يخدم أكثرية المجتمع الساحقة.. وإلاّ لما كان لهذه البلدان أن تصمد وأن تنتصر حتى اليوم دون هذا النموذج الذي أمن مستوى عالياً من اللحمة الداخلية..

إن تاريخ منطقتنا وبلدنا يشابه في نقاط كثيرة تاريخ شعوب أمريكا اللاتينية في مقاومة الاستعمار قديمه وجديده، بمن فيه الرموز الاستشهادية الكبرى التي تلهم كفاحنا اليوم، من يوسف العظمة إلى تشي غيفارا..

إن هذه الزيارة ونتائجها التي يجب أن تظهر تباعاً لاحقاً، متجاوزةً كل العراقيل والحواجز السابقة بما فيها رهان بعض الليبراليين على العلاقات غير المتكافئة مع الغرب.. هذه الزيارة هي تأسيس لمفهوم جديد للمجتمع الدولي، أساسه كل أشكال المقاومة للظلم والاستغلال، ويسير نحو النفي المطلق لذلك المفهوم السائد للمجتمع الدولي الذي يبرر، بل ويدعم كل الجرائم التي ترتكب من جانب واشنطن وتل أبيب..

إن التقارب والتحالف بين سورية والدول المتحررة في أمريكا اللاتينية يلاقي كل الارتياح لدى أحرار العالم، ومن الطبيعي أن يلاقي كل الغضب والانزعاج لدى الغرب الإمبريالي، ولكنه كما قال الرئيس تشافيز: إنه محور الشجعان والشعوب الأحرار والعالم الجديد.. إن توطيد تحالفات كهذه هو من ضمانات توطيد كرامة الوطن والمواطن..