أحزاب قائدة أم جماهير منظّمة؟؟
سادت، في السنوات الماضية، عقلية الحزب القائد في التعاطي مع الجماهير عند معظم القوى السياسية التقليدية، فبالنسبة لهذه القوى القديمة لا يتعدى دور الجماهير أن يكون أداة لوصولها الى السلطة، بمعنى أن دور الناس يقتصر على التصفيق والتهليل للقائد الذي ينبغي أن تناط به وحده إدارة شؤون البلاد بكاملها فيتولاها الساسة والقادة بحكمتهم وفطنتهم المفترضة، وما على الجماهير إلا العودة إلى بيوتهم قريري العين إزاء عبقرية القائد الأوحد..
إن أحد أهم أسباب الأزمة السورية الحالية هو تلك العقلية الوصائية والانتهازية في التعامل مع الجماهير. فتعاطي حزب البعث في العقود الماضية ضمن هذه العقلية، من خلال المادة الثامنة في الدستور القديم وقانون الطوارئ، قام بتهميش دور الشعب في المشاركة بالعملية السياسية، وإلغاء دوره في المحاسبة والرقابة على أجهزة الدولة وأدائها. وعلى المقلب الآخر، نجد أن قوى المعارضة التقليدية لا تختلف عن النظام في التعاطي مع الشارع، فنلاحظ من خلال ممارساتها في الأزمة السورية أنها تحمل عقلية الحزب القائد ذاتها، ولكن من موقع المعارضة، حيث لم تأت الحلول والرؤى المطروحة من هذه القوى، لمستقبل السورية، بشيء جديد، سوى اللبوس الديمقراطي الذي تكتسيه، أما في الجوهر فتنظر إلى الجماهير بشكل فوقي، على أنهم يجب أن يقدموا التضحيات في سبيل وصول هذي القوى الى السلطة ليصحبوا «حزباً قائداً» جديداً، فمنذ اليوم الأول من انفجار الأزمة لم تتحفنا أيٌ من هذه القوى ببرنامج واضح للحكم في البلاد، بل افترضت أوتوماتيكياً أن إزاحة النظام الحالي من السلطة تعني قدومها إليها، وأن تلك مهمّة الجماهير الثائرة التي عليها أن تبقى في موقع الجماهير المحكومة دوماً. فمن الواضح أن ثقة هذه القوى بالجماهير معدومة، فهي لا تراها قادرة على تحقيق التغيير المنشود، عبر قواها الخاصة، فتراها تسعى بكل قوتها لطلب التدخلات الخارجية، علّها تحجز لنفسها موطئ قدم على الساحة السياسية السورية.
إن تلك الدلائل تشير إلى اقتراب ساعة الفضاء السياسي القديم، من قوى النظام والمعارضة، التي مازالت تنتهج هذه العقلية، وذلك يفرض بدوره حالة من الفراغ في الشارع السوري على الصعيد السياسي والاقتصادي- الاجتماعي، يملأ هذا الفراغ موضوعياً حالة النشاط السياسي المتصاعد في أوساط الشعب.ولا سيما وأن قوى الفضاء السياسي القديم أوصلت البلاد إلى حالة غير مسبوقة من الدمار، نتيجة لجوئها إلى السلاح وذلك في محاولة درء تراجعها السياسي السلمي، ممّا ساهم في خلق أزمات معيشية وتوترات اجتماعية على الأرض تحتاج إلى حلول جريئة، لا أحد يظهر المقدرة على تبنيّها إلا أصحاب المصلحة الحقيقية، والمقصود هنا طبعاً الشعب عبر نشاطه السياسي.
يلجأ الناس اليوم في البلاد، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة أو الخاضعة للمعارضة المسلّحة، إلى ابتداع أنماط جديدة للمعيشة في ظل غياب الإدارة والتنظيم في الحياة العامة، الأمر الذي يرتبط من ناحية جوهرية بمسألة تشكّل الفضاء السياسي الجديد، فهولاء الذين بادروا إلى حلِّ التفاصيل الدقيقة والمعقّدة في آن واحد من حياة الناس، كتنظيم توزيع الخبز والمازوت والغاز وغيرها من القضايا التي يراها طرفا النزاع قضايا تافهة، هؤلاء هم من سيمتلك مفاتيح الحل الشامل نتيجة درايتهم العميقة بمعاناة الناس، والأهم من ذلك قدرتهم على تنظيم صفوف الناس، في الوقت الذي تتلاشى فيه تنظيمات الفضاء السياسي القديم..