أنقذوا صناعة الألبسة وعمالها (1)
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

أنقذوا صناعة الألبسة وعمالها (1)

بعد خمسة وثلاثين عاماً من العمل كفنّي تفصيل (مقصدار) «وبليلة ما فيها ضو قمر» أصبحتُ أجيراً في مستودع البضائع التركية والصينية، وذهبت كل سنوات الخبرة التي قضيت عمري في مراكمتها هباءً منثوراً. بهذه الجمل الإنشائية المختزلة أوضح لنا أبو عصام الواقع الجديد الذي فرض على حياته وجعله ينحدر مادياً ومعنوياً إلى قاع لا مستقر له، متأسفاً ليس على نفسه فحسب بل على عشرات الآلاف من الخبرات الفنية والمهنية في صناعة الألبسة الجاهزة وعلى الصناعة كلها. عشرات الأسئلة يطرحها على نفسه وعلينا، والتي يخشى من الإجابة عليها بنفسه كي لا تموت لديه آخر معادلات الأمل التي طالما أجاد العيش فيها طوال عقدين من الزمن.

صهيب والمُلقب أبو عصام، أحد الفنيين الذين تربوا ونضجوا في ورشات ومعامل صناعة الألبسة، فمن عامل فتي لا يتجاوز عمره 13 عاماً وحتى اليوم - على أعتاب العقد الخامس من العمر - لم يمتهن غيرها. وتطور طوال تلك السنين من اختصاص لاختصاص حتى أصبح فني تفصيل مسؤولاً عن قسم القص في مصنع للألبسة الجاهزة بريف دمشق، والذي يصنف من المصانع متوسطة الحجم والإنتاج والتي تحظى بسمعة طيبة. فمن عامل «حويص» يعرش وينظف ويغلف ويقوم بالعتالة، إلى مُحضّر وعامل كوي، ثم عامل حبكة ودرزة، ثم فني جودة ومراقب إنتاج يفقه بأدق تفاصيل الصنعة وأسرارها، ليصبح بعدها من أهم خبراء القص في هذه البلاد. ورغم كل التحولات الإيجابية والانتكاسات الكبرى التي مرت بها الصناعة، بقيت في حدها الأدنى صامدة وقادرة على الحياة. ولكن ما تتعرض له الصناعة خلال هذه الأيام أشبه بموت وشيك لا مفر منه.

الانتقال من التصنيع للتجارة

يقول أبو عصام خلال حديثه معنا: ليست المرة الأولى التي تتعرض صناعة الألبسة لمخاطر تهددها «بس هالمرة غير شكل». فمنذ سقوط النظام وبدء تدفق البضائع المستوردة إلى البلاد عبر الحدود بفوضوية دون حسيب أو رقيب أو حتى تخطيط، وبكميات مخيفة، توقف الإنتاج في معملنا لمدة نصف شهر تقريباً. ثم بدأنا بتشطيب الموسم الصيفي وفق الخطة الموضوعة مسبقاً، لتأتي تعليمات مفاجئة من الإدارة بتخفيض الكميات المنتجة للثلث واختزال تشطيب الموسم بأقل ما يمكن خوفاً من كسادها بالمستودعات. وكان الخيار إن كان لا بد من الكساد فليكن بالقماش الصيفي وليس بالمنتج النهائي. وهذا أدى لإيقاف 23 عاملاً من مختلف الأقسام، في حين توقفت الرواتب الثابتة لجميع عمال الدرزة والحبكة والكوي والقص، واستُبدِل بها أجرٌ على القطعة المنتجة. ولم تتأثر قيمة أجورهم مباشرة بل أسبوعاً بعد أسبوع بالتزامن مع المراحل النهائية لخطة الإنتاج الصيفي. وعند انتهاءها أصبح هؤلاء العمال ومنهم أنا دون عمل أو راتب. ولكن الإدارة لم تتخلَّ عنّا، إنما طرحوا علينا الاستمرار لكن ليس كعمال فنيين وإنتاج بل كعمال نقل وتخزين ومبيعات.

من خبير قص إلى أمين مستودع

يكمل أبو عصام: فهمنا بعد هذا الإجراء أن الإدارة قررت التكيف مع الواقع الجديد ودخول الجو الجديد والتوقف عن الإنتاج واستبداله بالاستيراد. وهذا الذي حصل، حيث بدأت البضائع تصل للمستودعات تباعاً وبكميات كبيرة. ورغم تخصصنا السابق بالألبسة النسائية فقط، إلا أن البضائع كانت متنوعة وفيها ولادي ورجالي وحتى أحذية، وكل البضائع كانت تركية وصينية. وأصبحت وظيفة بعض عمال الخياطة الاستلام والفرز والتصنيف، أما فني الكوي فصار سائق بيك أب، وأنا أصبحت أميناً للمستودعات المتنوعة بأصنافها وبضائعها. حاولت أنا وأغلب الفنيين البحث عن عمل بشركات أو معامل أو ورشات أخرى دون جدوى، فأغلب الصناعيين توقفوا عن الإنتاج أو حذوا حذو شركتنا بالاقتصار على العمل التجاري بعيداً عن أي نشاط إنتاجي صناعي. وهذا ما جعلنا نبقى في أعمالنا «من تم ساكت»، وهيمن علينا شعور «الضابط اللي مكسرة رتبو». هذا من الناحية المعنوية، أما من الناحية المادية فالأمور كانت أكثر صعوبة وإيلاماً. فعامل الدرزة مثلاً «كان بلحق بالأسبوع الواحد أكتر من مليون ونص، صار راتبو بالشهر كلو 2 مليون». أما أنا فكانت أسبوعيتي ثلاثة ملايين ليرة سورية، وراتبي الآن أربعة ملايين كوني «أمين مستودعات مو حيالله».

الربح منك والخسارة عليك

منطق الإدارة معنا منذ لحظة التحول للعمل التجاري البحت: «اللي رضي عاش وأحسن ما تضلوا بلا شغل، واللي بدو يترك وملاقي أحسن الله معو، وهيك الوضع هلق يمكن بكرة بيتغير الوضع ومنرجع منشغل المعمل مو طالع بإيدنا شي». وأنا كابن مصلحة وأعرف ما الذي يحصل ومخاطر الإنتاج، أستطيع تفهم إجراءات الإدارة لكن لا أستطيع تفهم خفض الرواتب. ولن تنكسر ميزانيتهم إذا أبقوها كما كانت لعدة أشهر أو حتى سنة، فتراكم أرباحهم خلال السنين الماضية كانت جيدة، ويمكن أن يقطعوا منها لصالح الأجور حتى يخلق الله أمراً آخر. ولكن «كل المعلمين هيك»: الربح منك والخسارة عليك.

مربط الفرس عند الدولة

يقول صهيب: «أكتر شي قاهرني أنو وقفنا إنتاج مشان نجيب هيك بضاعة، يمكن ما إحسن إشرحلكم بحكم المصلحة، بس هالبضايع اللي عم نجيبها مو أحسن من بضاعتنا المصنعة عنا، عالعكس تماماً. والله لا القماش قماش ولا القالب مناسب للبلد ولا الخياطة خياطة، يعني كتير بازارية بس يا أخي أرخص. ومنستغرب كيف هيك كلفتها؟ بس لو هالبلد بتزبط منطلع أحسن منها وأرخص كمان. لا تستخفوا فينا بزمانو بس نزلت بضاعة صينية عالبلد صرنا نطلع بيجاما 3 قطع بدولارين. خلينا اللي استوردهم يكب بضاعتو. ووقت كنا نصدر أثقل بضاعة بالأطنان نشحن عالخليج والعراق والأردن وحتى لأوروبا، أحلى جودة وأحلى سعر. بس كانت هالصناعة معزوزة وفينا ننافس. وقبل الأزمة بخمس سنين بلشنا نزول ونزول وما كنا نهدي. أما هلق فمستحيل إلا إذا الدولة اتدخلت. مربط الفرس كلو عند الدولة: يا بتحمي الصناعة وبتدعمها، يا كلشي فيكي يا بلد من خبرات، يا أما بتسافر أو بشتغل عالتكسي والبسطات».

أهل مكة أدرى بشعابها

لقاؤنا مع أبو عصام استمر لعدة ساعات، دخلنا معه في تفاصيل هامة وجوهرية، وأثبتت لنا هذه التجربة مستوى النضج العملي والسياسي لنموذج من خبرات الصناعة الوطنية. واكتشفنا بأن هذا اللقاء الخاص يعبر عن العام بل ويوسع فهمنا له، فمن الاحتكار لعلاقة رأس المال الصناعي بالعمال، وللتناقض الطبقي الخفي بين الصناعيين والتجار، لأهمية دور الدولة، وغيرها الكثير. وسنكمل في المادة القادمة القسم الثاني من حديث أبو عصام المهني الفني السوري العتيق... يتبع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1240