الطبقة العاملة إلى الهجوم المضاد

مرّ الأول من أيار لهذا العام كأي يوم عادي من الأيام دون أن يكون مميزاً لدى الطبقة العاملة السورية، وهي التي خاضت النضالات الباسلة، منذ البدايات الأولى لتشكلها كطبقة تواجه مستغليها، ومستعبديها عارية الصدر، لكن بشجاعة، وهي التي بدأت براعمها الأولى بالنمو، والتجذر في تربة الوطن مع بداية نمو مقاومة شعبنا للمحتل الفرنسي، حيث كبرت هذه الطبقة جنباً إلى جنب، مع تطور نضالها لتشق طريقها الصعب نحو بناء إطارها التنظيمي (نقاباتها)، ليكون هذا التنظيم سلاحاً يستخدمه العمال في تنظيم أنفسهم لمواجهة الحكومات وأصحاب الرأسمال المتحدين في مواجهة العمال وحقوقهم. قال عبد القادر العظم عميد معهد الحقوق سنة 1940 في معرض وصفه للمظاهرات العمالية: (... نفس اليوم الذي يعلن فيه الإضراب لينتشر العمال في الشوارع والأزقة كأسراب الوحوش الضارية، فينشأ عن حركتهم هذه شغب كبير يخل السير في الطرقات)..

لماذا الإضرابات؟

تصاعد موجات الإضرابات العمالية التي سادت البلاد، خاصة في المناطق الصناعية مثل دمشق وحلب وحمص، لم تأت من فراغ، بل جاءت مستندة إلى ما ورثته الطبقة العاملة السورية من إرث نضالي كان موجهاً أساساً إلى الوجود العثماني بكل أشكاله، حيث تأثرت تلك الإضرابات بحركة العامة، كما يسميها المؤرخون، التي كان عمدها الأساس الحرفيون، الذين يمثلون طليعة العامة، وهم أيضاً النواة التي تشكلت منها لاحقاً الطلائع الأولى للطبقة العاملة، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدت إلى تحويل هؤلاء الحرفيين إلى عمال.

فقد خاض العمال منذ اللحظات الأولى معاركهم الطبقية بسبب وطأة الضرائب، ارتفاع الأسعار، احتكار المواد الغذائية أو قلتها، واستمرت تلك المعارك تتصاعد مع تصاعد الاستغلال، والاضطهاد، ومن خلال المعارك تلك اكتشف العمال حاجتهم إلى تنظيم يجمعهم، ويوحد نضالاتهم التي أخذت تتسع لتشمل البلاد كلها، وما كان باستطاعة العمال تحقيق نجاحات هامة على هذا الصعيد لولا الإضرابات التي خاضوها عفوياً في البدايات، حيث أخذت لاحقاً طابعاً منظماً تقرر النقابات التي تأسست، وكان أولها نقابة عمال التريكو عام 1925، فقد لعبت هذه النقابة دوراً أساسياً، وقيادياً في المعارك اللاحقة للعمال من أجل مطالبهم.. من أجل ثماني ساعات عمل، وأجور عادلة تتناسب مع تكاليف المعيشة، وقانون عمل ينظم العلاقة مع أرباب العمل، ويوثق حقوقهم، وعلى هذا الصعيد يمكن أن نذكر الدور الهام الذي لعبه الاتحاد العام لنقابات العمال في ربيع عام 1938، حيث أعلن إضراباً عاماً شارك فيه عمال سورية للمطالبة بإقرار قانون للعمل، وشاركت فيه 24 نقابة من دمشق.

إذاً لعبت الإضرابات العمالية دوراً أساسياً في:

1 ـ الاعتراف بالطبقة العاملة كطبقة لها مصالحها، ولا يمكن تجاهلها، والاعتراف أيضاً بدورها الوطني الذي لعبته في دعم المعارك التي خاضها شعبنا في مواجهة الاستعمار الفرنسي.

2 ـ إقرار البرجوازية الوطنية بحق الطبقة العاملة بتأسيس نقاباتهم، وحقهم في ممارسة نضالهم النقابي في الدفاع عن حقوق العمال.

3 ـ الإضرابات لعبت دوراً مهماً في الضغط على المجلس النيابي من أجل إقرار قانون للعمل.

دور القوى الوطنية وخاصة الشيوعيين في تصاعد نضال العمال

لقد احتفل عمالنا السوريون بعيدهم الأول عام 1925، و يشقون طريقهم باتجاه الاستقلال عن أرباب العمل الذي كان يجمعهم إطار نقابي واحد صاغه العثمانيون، واستمر على منواله الفرنسيون. كانت حركة العمال الاستقلالية هذه تنمو مع بدايات نمو الأفكار الداعية إلى الاشتراكية، حيث لم تبق تلك الأفكار أفكاراً، بل أخذت طريقها إلى الطبقة العاملة لتسلح العمال الحديثي العهد بالنضال النقابي والسياسي، بسلاح مجرب استخدمه العمال في أماكن عدة مكنهم من انتزاع حقوقهم والدفاع عن مكاسبهم، أي أن الأفكار بدأت تتحول إلى قوة مادية تلهم الطبقة العاملة، وتجعل بوصلتهم بالاتجاه الصحيح الذي يحقق مصالحهم.

ما نودقوله في هذه العجالة، ونؤكد عليه، إن الطبقة العاملة السورية قد مرّت بمراحل كثيرة من التجارب أخفقت في بعضها، ونجحت في بعضها، مما جعلها أكثر نضجاً ووعياً ومكّنتها من أن يكون لها دور متميز على الصعيد الوطني والاجتماعي، رغم المحاولات الكثيرة التي جرت وماتزال تجري إلى الآن لاحتواء هذه الطبقة ومحاصرتها وجعلها طيعة وودية تجاه مستغليها، مستفيدين من الظروف الصعبة التي مرّ ويمر بها شعبنا من فقر، وبطالة، وغلاء أسعار، وانخفاض حاد في مستوى المعيشة. ولكن حالة السكون هذه لم تكن تطول كثيراً، إلاّ وتبدأ الطبقة العاملة حركتها من جديد مستخدمة سلاحها الثقيل (الإضراب) الذي كان يرعب الرأسماليين وحكوماتهم رغم كل وسائل الترهيب والترغيب المستعملة.

إن التطور النوعي في دور الطبقة العاملة السورية الذي حقق نتائج هامة على صعيد إصدار قوانين العمل التي تضمن حقوق العمال، والسماح بتأسيس نقابات، وحرية الاجتماعات النقابية دون إذن مسبق من السلطات، كل ذلك قد تم نتيجة النضال الذي خاضته الحركة الوطنية جنباً إلى جنب مع الطبقة العاملة، وفي طليعتهم الشيوعيون الذين ساهموا إلى حد بعيد في تأسيس الكثير من النقابات العمالية. ليس هذا فحسب، بل قادوا نضالاتها في المعامل والشوارع وسلحوها بشعارات واقعية تلبي المصالح الوطنية والطبقية للطبقة العاملة السورية، وهذا ما تؤكده الإضرابات الواسعة في كل المدن السورية، وإنشاء لجان للتضامن ومساعدة المضربين في المحافظات، أي كان هناك تلاحم حقيقي بين الحزب والطبقة، وكانت الممارسة هي تجسيد لما يقوله الشيوعيون في برامجهم، أي ليس هناك انفصال بين القول، والعمل، بين الفكر والممارسة، كما هو حاصل منذ عقود، ليس بين الطبقة العاملة والشيوعيين فقط، بل يمكن أن نعمم أكثر، إن الهوة واسعة بين كل القوى الوطنية بما فيها النقابات والطبقة العاملة،

وخاصة عمال القطاع الخاص، الذين يشكلون أغلبية العمال سواء في القطاع المنظم، أو غير المنظم المتوزعين في مشاغل وحرف كثيرة، وهم خارج المظلة التأمينية، وخارج المظلة النقابية، ولا يخضعون لقانون يحمي حقوقهم، بالإضافة إلى العمال العاملين في المنشآت القائمة على قانون الاستثمار، أي أن هذا القطاع الهام يزداد عدداً الآن، وبالمقابل عدد العمال في القطاع العام يتناقص بسبب سن التقاعد، المرض، والوفاة، الاستقالات، وعدم الاستثمار في القطاع العام، أي أن القاعدة الأساسية للنقابات هي، بتناقص، وضعف، رغم ما تتمتع به الحركة النقابية من إمكانيات تمكّنها من تطوير دورها وأدائها لردم تلك الهوة المتسعة مع العمال، و لا سبيل إلى ذلك سوى العمل للتقرب من العمال، بتبني مطالبهم في مواجهة أرباب العمل، والممارسات التي يتعرضون لها في ظل ظروف تطور، وتصاعد دور الرأسمال في الحياة الاقتصادية مما يستدعي تشديد النضال من أجل حقوق العمال، وخاصة حقهم في زيادة أجورهم، وحقهم في التنظيم النقابي.

إن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق النقابات فقط، بل تتعداها إلى القوى الوطنية، وخاصة الشيوعيون، في تطوير أشكال نضالهم العمالي والسياسي لإعادة ذلك الدور لهم الذي كان يلعبه الشيوعيين في نضالات الطبقة العاملة، ولا بد من استعادته، وإلاّ ستحل محلهم قوى أخرى، قد تقود العمال إلى مواقع لا تعبر عن مصالحهم كما جرى في الدول الاشتراكية السابقة مستغلةً ظروف العمال الصعبة، وأيضاً ظروف تنامي دور قوى السوق الكبرى، والرأسمال الأجنبي الداعم لتلك القوى.

إن تبني مصالح العمال أينما وجدوا، والدفاع عنها يعني تبني أشكال أخرى من النضال ومنها حق الإضراب، حيث كان سلاحاً فعالاً بيد الطبقة العاملة ولا يزال فعالاً من أجل استخدامه مرة أخرى عندما تقتضي الحاجة إليه، وإلاّ كيف ستفاوض النقابات أرباب العمل من أجل زيادة الأجور الذين يمتنعون عن زيادتها بالرغم من النداءات والبلاغات التي تصدر من أجل ذلك؟؟

دون سلاح فعال ليستطيع العمال باستعماله من أجل زيادة أجورهم ومن أجل حقوق أخرى تفرضها المستجدات.

أليس هذا موقفاً أصيلاً للبرجوازية ومنظريها تجاه الطبقة العاملة السورية، مليئاً بالحقد والكره لهذه الطبقة، التي لا يمكن بدون فائض القيمة الذي يحققه العمال أن ينعم الرأسماليون بالنعيم الذي هم فيه.

وأخيراً، فإن الظروف التي دفعت العمال إلى الإضراب سابقاً لم تتبدل كثيراً لأن جوهر الإنتاج الرأسمالي القائم على الاستيلاء على فائض القيمة المحقق، مازال قائماً وبالتالي هذا سيدفع العمال أكثر للنضال من أجل حقوقهم وكرامتهم.

إن الأول من أيار ليس يوماً عادياً في حياة العمال، إنه يوم من أجل تشديد النضال الطبقي، يوم من أجل تعزيز وحدة الحركة العمالية كل الحركة العمالية على أرض الوطن.. يوم لنقول فيه نحن العمال: لا للاستغلال... لا للاحتواء.

نعم لكرامة الوطن والمواطن .

آخر تعديل على السبت, 17 أيلول/سبتمبر 2016 13:59