هذا ما قلناه في 2011
كلمة د قدري جميل في اجتماع عقدته أمانة حلب للثوابت الوطنية شهر آب ٢٠١١
الحوار ضرورة... دائماً هو ضرورة. واليوم هو ضرورة قصوى بالنسبة إلينا، ولا خيار آخر غير خيار الحوار... لماذا ؟ لأن الحوار هو صراع.. هو صراع آراء سلمي - حضاري. ومن يرفض الحوار معنى ذلك أنه يريد أن ينقل الصراع إلى ميدان آخر، والميدانالآخر هو الصراع غير السلمي وغير الحضاري. لذلك ليس أمام القوى الشريفة في المجتمع السوري وفي الدولة السورية إلا خيار وحيد هو الحوار. وقد استُحِق الحوار. إن الحوار هو تعبير عن استحقاق قديم، هو تعبير عن ضرورة كان مطلوباً حل قضاياها منذفترة طويلة.
إن تراكم المشاكل غير المحلولة وهو ما يجري الاعتراف به، قد أدخل البلاد في أزمة وطنية عميقة، وهذه الأزمة مطلوب اليوم الخروج الآمن منها. ذلك الخروج الذي في نهاية المطاف يستطيع أن يجعلنا جميعاً أقوى.. وأفضل.. وأرقى. لذلك أعتقد أن الشعب السوريوقواه الوطنية قادرة على إيجاد القوى الضرورية، والهمة الضرورية من أجل الانطلاق إلى الأمام وصناعة المستقبل.
ورقتي كما تم التنسيق مع الجمعية المحترمة حاولتْ أن تركز على أحد المحاور، أي على المحور الاقتصادي. ولكن لا يمكن الدخول به دون الإشارة إلى بعض النقاط.
الجميع يتكلم عن الإصلاح الشامل.. ماذا يعني الإصلاح الشامل؟ لماذا لم تنجح حتى الآن جميع محاولات الإصلاح؟ ببساطة.. لأنه لم تكن لديها منظور شامل.. تقفز من نقطة إلى نقطة.. من طريقة إلى طريقة في الإصلاح، مرة تحدثنا عن الإصلاح الإداري.. لم ينجح،ذهبنا إلى الإصلاح الاقتصادي.. لم ينجح أيضاً، وأنا الآن سأقول لكم: الذي يريد إصلاحاً سياسياً فقط أيضاً لن ينجح.
أولاً: الإصلاح شامل. محاوره: سياسي اقتصادي اجتماعي، وهذه المحاور متلازمة ومتوازية. لذلك شمولية الإصلاح أي تعرضه لمختلف جوانب حياة المجتمع وتأثيره عليها هو الضمانة لنجاحه اللاحق. وفي التجربة السابقة لدينا ما يكفي من الإثباتات حول هذاالموضوع. والشيء المثلج للصدر اليوم أن جميع أطياف المجتمع قد وصلت إلى هذه القناعة.
ثانياً: الإصلاح كي ينجح يجب أن يكون جذرياً. اليوم الإصلاح السياسي إذا أردنا أن نقوم بتعديلات تجميلية ترقيعية لن ينجح هذا الإصلاح.. وإذا أردنا أن نقوم بترقيعات في الإصلاح الاقتصادي؛ أيضاً لن ينجح هذا الإصلاح. وكذلك الأمر في كل المجالات. أي أن الصفةالثانية للإصلاح هي جذريته. وأعتقد أن الكلام الذي بدأ يجري حول ضرورة الذهاب نحو دستور جديد هو مؤشر حول أن الإصلاح السياسي يجب أن يكون جذرياً. لم تعد القضية في مادة واحدة أو اثنتين أو ثلاث في الدستور. القضية في الدستور كله. والدساتير فيالعالم مثل الناس لها عمر محدود. فالدستور يعكس البنية السياسية.. يعكس بنية الوعي الاجتماعي ويقنونها. لا يوجد شيء إلى الأبد في هذه القضية، والذي سيتأخر سيسبقه الواقع.
الأزمة بطبيعتها تنضج ثم تنفجر بشكل أو بآخر. سورية اليوم بحاجة إلى دستور جديد. وأنا في هذا الموضوع جذري، فلن أكتفي بالمادة الثامنة من الدستور.... الشعب السوري يريد دستور جديد.
في موضوع الإصلاح الاقتصادي: هنا نجد الكثيرين ممن يتكلمون عن الإصلاح السياسي يتوقفون وكأن في فمهم ماء، فعندما يتحدثون عن الإصلاح الاقتصادي يتحدثون عن إعادة توزيع الثروة ثم يصمتون.
الإصلاح الاقتصادي يعني في الجوهر: إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء... الإصلاح الاقتصادي يعني إعادة توزيع الثروة بين الناهبين والمنهوبين... الإصلاح الاقتصادي يعني إعادة توزيع الثروة بين الحرامية الذين قاموا بهذا الفساد الكبير وبين الذين تضرروا من هذا الفساد.
هذا هو الإصلاح الاقتصادي الذي يريده الشعب السوري. فلا نريد ترقيعات .. الشعب السوري العظيم الذي استطاع أن يحقق أول استقلال بعد الحرب العالمية الثانية من بين الدول العربية، والذي استطاع أن يقاوم المخططات الاستعمارية في الخمسينيات، والذياستطاع حتى هذه اللحظة أن يحافظ على سورية مقاومة وممانعة في ظل الأوقيانوس الكبير من التراجعات والاعتدالات ... هذا الشعب يستحق أن يعيش في وطنه كريماً. إذاً، الصفة الثانية للإصلاح هي جذريته.
الصفة الثالثة للإصلاح هي أن يكون له اتجاه محدد. هذا الاتجاه المحدد للإصلاح نحو تعزيز دور سورية الوطني. فالإصلاح الذي لا يعمق دور سورية الوطني لا نريده. نحو تعزيز وحدتها الوطنية.. وحل القضايا الاقتصادية الاجتماعية. هذا هو الاتجاه الذي يجب أنيسير عليه الإصلاح بعد الجذرية والشمولية اللتين يجب أن تسمان الإصلاح.
ملاحظة حول الإصلاح السياسي: هنالك شبه إجماع بين القوى السياسية كلها حول مفردات الإصلاح السياسي. وإذا كان هنالك اختلافات فهي في التفاصيل الصغيرة. ولكن الأهم: وأريد أن ألفت نظر جميع الحضور لهذه النقطة.
نعرف أن دائما في سلسلة القضاياهنالك حلقة أساسية يجب إمساكها- هل تريدون إصلاح سياسي حقيقي؟؟ إذن نريد قانون انتخابات حقيقي.
نريد قانون انتخابات ليس مفصلاً على قياس: لا جهاز الدولة ولا قوى المال... نريد قانون انتخابات حقيقياً يوصل صوت الشعب الحقيقي إلى مجلس الشعب. لو كان صوت الشعب الحقيقي يصل إلى مجلس الشعب لما وصلنا إلى هذه الأزمة.
مجلس الشعب هو جهاز استشعار مبكر. فإذا عُطِل هذا الجهاز وأصابه الخلل تنفجر الأمور كما يحصل اليوم. لذلك نريد ضمانات للمستقبل كي يكون التطور طبيعياً وسليماً وبدون آلام كبيرة وأهم هذه الضمانات مجلس شعب حقيقي. وأنا كشيوعي أقول لكم : لا يهمنيمن سيصل إلى مجلس الشعب، فليصل كائناً من كان، ومهما تكن عمامته أو قبعته أو طربوشه. المهم أن يكون منتخباً من الشعب ويحمل همومه. فهذه هي الضمانة للتطور اللاحق.
إذاً في منظومة الإصلاح السياسي لدينا هذه القضية. وأقول منذ الآن: إذا كان قانون الأحزاب المقبل في سورية أحسن قانون أحزاب في العالم، ولكن ليس معه قانون انتخابات مرافق له ويوازيه ويدعمه ويفعله فلن تبقى هنالك أية قيمة لقانون الأحزاب هذا.
وهذا كله إذا ما تم فهو كفيل بوضع النقاش والاختلاف على السكة الصحيحة. فلا حياة دون اختلاف. ولكن الخلاف يجب أن يكون بين قوى حقيقية.
وعليه فإن الكثير مما يقال عن معارضة / نظام أعتقد أنه يقوم على الفرز الوهمي، لأن خطوط الفصل في المجتمع هي أعقد بكثير من خط الفصل الذي يحاول البعض أن يقيمه لنا وهمياً على أساس ثنائية: معارضة / نظام.
أنا اعتبر نفسي معارضاً، ولقد عارضنا السياسات الاقتصادية –الاجتماعية خلال السنوات الخمس الماضية. وقلنا منذ البداية أن هذه السياسات ستؤدي إلى انفجارات اجتماعية، وستوصل البلاد إلى كارثة. ومع الأسف تبين أن حديثنا هذا صحيح ووصلنا إلى الأزمةالحالية. ولكن أقول: أنه في داخل النظام كان الكثيرون يحملون الرأي ذاته، وفي المعارضة أيضاً كان يوجد من يوافقنا على هذا الرأي ولكن كان هنالك آخرون مع السياسات الليبرالية. لذلك يجب تفكيك الثنائية الوهمية: معارضة / نظام والانتهاء منها وخلق ثنائيةحقيقية، أيضا طرفيها: معارضة / نظام، ولكن على أساس السياسات الاقتصادية - الاجتماعية الحقيقية.
إن عدم وجود حركة سياسية فاعلة في البلاد قد أخرج قوى هامة من جهاز الدولة من تحت الرقابة الأمر الذي وضع الأساس الموضوعي لتفشي ظاهرة الفساد التي قويت عبر استنزافها ثروات البلاد مستفيدة من مواقعها في جهاز الدولة ومتواطئة مع قوى السوقالكبرى وحلفائها من الشركات الكبرى غير المحلية. لذلك فإن محاربة الفساد والنهب الذين يطالان الدولة والمجتمع هي مهمة وطنية من الدرجة الأولى اليوم، لم يعد ممكناً حل أية مهمة في المجال الاقتصادي – الاجتماعي دون اجتثاث جذور الفساد. والفساد لا يمكن اجتثاث جذوره، والاستمرار بمنعه دون مستوى حريات سياسية عال للشعب.
إن الفساد ينمو في الظلام .. ينمو في الغرف المغلقة النوافذ التي لا يدخل إليها لا الشمس ولا الهواء. يجب أن نفتح نوافذ مجتمعنا للهواء والشمس، ونطهرها من تلك الآفة التي كادت أن تودي –وهي قادرة– بالدولة والمجتمع وتوصلنا إلى اقتتال داخلي لا نهاية له.
إن التيار الليبرالي الذي قاد السياسة الاقتصادية للحكومة الراحلة قد استند في صعوده إلى الموجة الليبرالية الجديدة في العقد الحالي، وكذلك استند إلى ظاهرة استنفاذ النموذج الاقتصادي السابق، وقام بالترويج إلى نموذج جديد. وعدنا عبره بأنهار الحليب والعسلولكنه بدل الحليب والعسل دمر سورية. فقد استلم هذا الفريق الاقتصادي وكانت نسبة الفقر في سورية في بداية الخطة الخمسية العاشرة %30 وسلمونا إياها فوق الـ%40
(حد الفقر دولاران يومياً للفرد). وهذه أرقام رسمية. لذلك المطلوب عملياً البحث عننموذج اقتصادي جديد، وهذا الموضوع يتطلب ورشة عمل وطنية كبرى وهو أحد مواضيع الحوار الوطني، حيث لا يمكن لباحث واحد، لعبقري واحد، لمؤسسة واحدة، لحزب واحد، أن ينجز هذا المشروع. فهذا مشروع وطني يتطلب حواراً عميقاً ولذلك يجب دفع كلقوى المجتمع إلى المشاركة.
أعتقد أن الملامح العامة للنموذج الاقتصادي المطلوب اثنتان: أعلى نمو ممكن .. وأعمق عدالة اجتماعية.
النمو الحالي ليس جيداً فرقم نمو %4 إلى %5 خلال السنوات الماضية لا يمكننا من حل أي مهمة كبيرة منتصبة أمامنا، خاصة مشكلة الفقر والبطالة. النمو المطلوب في سورية خلال فترة متوسطة لحل المشكلات التي تنتصب أمامنا يجب أن لا يقل عن %10 وهذاالنمو العالي ضرورة وطنية كبرى.
كذلك العدالة الاجتماعية العميقة ضرورة وطنية كبرى. فليس من المعقول أن تكون نسبة الأجور من الدخل الوطني %25 بينما هي في المنطق السليم وفي البلدان الرأسمالية المتقدمة نفسها، فإن نسبة الأجور لا تنخفض عن %40.
هذه هي الملامح العامة للنموذج الاقتصادي المطلوب . ما هي إحداثيات الوصول إلى هذا النموذج؟؟
1 - يجب أن يعيد النظر بالسياسة الأجرية لكي يتناسب الحد الأدنى للأجور مع الحد الأدنى الضروري لمستوى المعيشة. وهذا الحد الأدنى الضروري لمستوى المعيشة بأسعار اليوم هو 25 ألف ليرة سورية بينما الحد الأدنى للأجور قد تجاوز بعد الزيادة الأخيرةالعشرة آلاف ليرة بقليل.
2 - إعادة النظر بسلة الاستهلاك فالتضخم في سورية عال وهذا ما تؤكده أرقام المكتب المركزي للأحصاء.
3 - الاستفادة الكبيرة من القدرات العلمية الموجودة في المجتمع السوري التي وفرها التعليم المجاني عبر عقود بعد السبعينيات، فبسبب التعليم المجاني تولد لدينا ثروة بشرية كبيرة غير موجودة في أي بلد عربي. يجب الاستفادة من هذه الثروة.
4 - يجب وضع الخطط لمضاعفة الدخل الوطني كل خمس سنوات مرة وذلك ممكن في الظروف الحالية. وحل مشكلة البطالة خلال فترة لا تزيد عن 5 – 7 سنوات وذلك ممكن أيضاً.
هذا النموذج بإحداثياته إذا تم فإنه سيحقق النتائج التالية:
1 - تأمين التعليم المجاني في كل مراحله ولكل أفراد الشعب.
2 - تأمين الضمان الصحي المجاني لكل الشعب.
3 - حل جذري لمشكلة السكن.
4 - وأخيراً حتى مشكلة الكهرباء والمياه يمكن حلها، وأنا أقول لكم: أنه في ظل تطور عالي فإننا خلال خمس سنوات من الممكن جعل الـ 500 كيلو واط الأولى من استهلاك الكهرباء مجانية.
وهذا يعني أنه من الممكن الانتقال في سورية إلى آفاق جديدة وإلى مستقبل جديد وإلى نموذج جديد. وهذا يتطلب سلماً أهلياً أي أنه يتطلب صراعاً حضارياً .. صراع آراء صراع أفكار. ولذلك يجب منع العنف من أينما أتى .. فاليوم جاء وليد جديد طالما انتظرناه اسمه الحركة الشعبية. اليوم كل المجتمع السوري بحالة حركة .. البعض يظن أن الحركة هي التي تتم على أرض الشارع فقط وهذا خطأ .. اليوم، السوريون جميعاً يتحركون .. يتحركون كلاماً ..يتحركون تفكيراً .. يتحركون نقاشاً.. السوريون جميعاً دخلوا معترك الحياة السياسية .. كل المجتمع السوري من أقصاه إلى أقصاه دخل معترك الحياة السياسية. وهذه اللحظة طالما تمنيناها كلنا، لأنه هذه اللحظة تعني نشاطاً سياسياً عالياً.. تعني القدرة على حلالمشاكل المنتصبة أمامنا .. لذلك يجب حماية الحركة الشعبية التي انطلقت من جديد ومنع أي عنف يمارس تجاهها من هنا أو من هناك. فالعنف عملياً يريد إجهاض التطور الطبيعي للحركة الشعبية.. والعنف وراءه في نهاية المطاف قوى الفساد أينما كانت....والسلام عليكم.