الخصخصة وصفة المبشرين بعد كل انهيار... والنتيجة واحدة... نهب الشعوب
من موسكو بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلى بغداد بعد الغزو الأمريكي، مروراً ببلدان أمريكا اللاتينية في الثمانينيات والتسعينيات، كان المشهد واحداً: نظام سياسي ينهار، دولة تتفكك، وتطلّ علينا على الفور جوقة من المبشّرين بالاقتصاد الحر.
يأتوننا ببدلات أنيقة ولغة مدهونة بمصطلحات براقة: (الانفتاح- تحرير السوق- تشجيع الاستثمار- الخصخصة). وفي حقيقتهم ليسوا سوى وسطاء لبيع ما تبقى من الدولة في المزاد العلني.
اليوم، يُراد لسورية أن تُلقى في الفخ ذاته: إخراج الدولة من دورها، تفكيك القطاع العام، والترويج لخصخصة شاملة حتى في القطاعات السيادية. وكأن الخراب الذي خلفته الحرب والفساد غير كافٍ، يريدون الآن استكمال المهمة بخراب اقتصادي شامل، مغلف بشعارات «الإصلاح».
حين تسقط الدولة... يبدأ الحفل
في روسيا، ما بعد السوفييت، تحولت الخصخصة السريعة إلى ولادة «الأوليغارشية»، قلة احتكارية سيطرت على النفط والغاز والمصارف، بينما غرق ملايين الناس في الفقر.
في العراق، بعد 2003، رُفعت نفس الشعارات: اقتصاد السوق- الاستثمار- إعادة الإعمار. النتيجة؟ دولة مدمَّرة، وقطاع عام مشرذم، وشركات أجنبية تسرح وتمرح بينما المواطن العراقي يلهث وراء أبسط الخدمات.
وفي أمريكا اللاتينية، وصفات «صندوق النقد» أدت إلى بطالة وانفجارات اجتماعية أطاحت بحكومات بأكملها.
هل المطلوب أن نعيد التجربة في سورية؟
المستثمر الجاد يحتاج دولة قوية... لا جمهورية موز
فلنسأل بوضوح: هل المستثمر الجاد، الذي يريد بناء مصنع أو تطوير زراعة أو إقامة مشروع طويل الأمد، يحتاج إلى دولة ضعيفة؟
الجواب: طبعاً لا.
المستثمر الجاد يحتاج إلى:
قضاء مستقل يحميه من الابتزاز.
بنية تحتية موثوقة تضمن استمرار عمله.
قطاع عام فاعل يوفّر الكهرباء والمياه والاتصالات، حتى لا تتوقف مشاريعه عند أول أزمة.
سوق مستقرة بقدرة شرائية متنامية، لا شعب مسحوق تحت الخصخصة والفقر.
من الذي يحب الدولة الضعيفة إذن؟ المضاربون فقط والمنتفعون الساعون إلى الربح السريع. هؤلاء الذين يقتاتون على الخراب، ويفرّون بأرباحهم إلى الخارج بعد أن ينهبوا البلد.
القطاع العام... قلعة السيادة
يحلو للبعض تصوير القطاع العام كجسم مريض يجب التخلص منه، لكن الحقيقة أن المشكلة لم تكن يوماً في «فكرة» القطاع العام، بل في الإدارة الفاسدة التي خنقته.
فليس صحيحاً أن القطاع العام هو سبب الخراب. الخراب جاء من الإدارة الفاسدة، من الاستغلال السياسي، من غياب الشفافية.
فالقطاع العام ليس عبئاً، بل هو ذراع الدولة الاقتصادي، وسلاحها لحماية السيادة الوطنية.
إذا بِيعت الكهرباء أو النفط أو المرافئ، فلن تكون لدينا «تنمية»، بل سنصبح رهائن لشركات أجنبية تتحكم في شرايين حياتنا.
الخصخصة = التفكيك
التجارب، من الأرجنتين إلى روسيا، ومن العراق إلى مصر، كلها تقول إن الخصخصة العشوائية في دولة ضعيفة ليست إصلاحاً، بل تفكيكاً مقنناً للوطن.
هي تسليم رقاب الشعوب لشركات ومضاربين، ينهبون اليوم ويتركون غداً خراباً أكبر.
كلمة إلى السوريين
لا تنخدعوا بالشعارات البراقة. «الاستثمار» الحقيقي لا يأتي حين تُباع مؤسسات الدولة في المزاد، بل حين تُصلَح وتُدار بكفاءة لتصبح رافعة للنهضة والتنمية.
من يريد مستقبلاً لسورية، عليه أن يدرك أن المعركة ليست بين القطاع العام والخاص، بل بين وطن متماسك تقوده دولة قوية، ووطن يُباع قطعةً قطعة تحت لافتة «السوق الحر».
من يريد اقتصاداً صحّيّاً في سورية الجديدة، عليه أن يفهم أنه لا استثمار حقيقي دون دولة قوية، ولا دولة قوية دون قطاع عام متماسك وفاعل.
فالخصخصة العشوائية ليست إصلاحاً... بل بيعاً للوطن في المزاد العلني.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1239