ما النموذج الاقتصادي السوري المطلوب في ظل التحديات القائمة والاستراتيجية؟
مضت سنوات عديدة على اعتماد النموذج الليبرالي في الاقتصاد السوري بوهم أنه سيحل الإشكالات المستجدة فيه، لكنه مع مرور الوقت وأخذ الفرصة العريضة، بدا أنه عاقر بنيوياً ولا قبل له بحل الإشكالات التي يعاني منها الاقتصاد السوري.. إذ لم يتمكن من رفع وتائر النمو كما أقرت الخطة الخمسية العاشرة، ولم تتدفق الاستثمارات بالشكل الموعود والمواضع المأمولة.. بل انخفض مستوى المعيشة ولم تتراجع البطالة، وتردت أحوال الصناعة والزراعة والخدمات العامة.. وهذا كله أصبح يطرح بشدة أسئلة كبرى عن جدوى الاستمرار بتبني هذا النموذج، وعن الملامح العامة للنموذج الاقتصادي المطلوب للاقتصاد السوري بعد الفشل الذريع للنموذج الاقتصادي القائم حالياً؟
وهل توفر الأزمة الاقتصادية العالمية الفرصة لإعادة النظر بموقع سورية في التقسيم الدولي للعمل القائم حالياً؟! وكيف يمكن ربط ذلك بالنموذج المأمول؟!
ثم أين يمكن إيجاد وتفعيل وتعظيم الموارد الضرورية اللازمة لتطوير الاقتصاد السوري؟!
وانطلاقاً من جدية هذه الأسئلة وراهنيتها، توجهت بها قاسيون لكل من الباحثين الاقتصاديين المعروفين د. منير الحمش، ود. نبيل مرزوق.. وكانت هاتين المساهمتين..
د. منير الحمش:
يجب إعادة الاعتبار لدور الدولة، وتدعيم وتشجيع قطاعات الإنتاج..
العودة إلى متطلبات التنمية المستقلة بالاعتماد على الذات
يقول د. الحمش: «مما يؤسف له، أن الإدارة الاقتصادية السورية انتهجت سياسات اقتصادية من شأنها تحويل مسار النهج الاقتصادي، عن طريق الصدمة، نحو اقتصاد السوق، عبر تحقيق انفتاح اقتصادي غير مسبوق، والمترافق مع انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي، وتسليم مفاتيح الاقتصاد الوطني لرجال الأعمال الجدد، حيث تم فتح أبواب الاستثمار في قطاعات مختلفة من السياحة إلى العقارات، والخدمات المالية والمصرفية، والمولات دون وضع آية قيود، والإهمال المتعمد للاستثمار في مجال الإنتاج الزراعي والصناعي.
تم انتهاج سياسة مالية وانكماشية حادة بهدف تخفيض العجز في الموازنة العامة ظاهرياً، لكن الهدف الحقيقي يكمن في انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي والاجتماعي، ومحاباة الأغنياء بتخفيض الضرائب المترتبة عليهم، بينما تم إبقاء هذه الضريبة مرتفعة - تحت مسميات مختلفة - على الفئات الفقيرة والمتوسطة.
إن الإجراءات – غير المبررة - التي تركت آثارها السلبية على الإنتاج الوطني تسير بوتائر متسارعة، كتحرير التجارة الخارجية، باعتبارها كما يقولون «قاطرة النمو»، بينما لم تكن هي سوى قاطرة للتخلف ولإغراق البلاد بالبضائع المستوردة، وأدت لإغلاق الكثير من الورش والمصانع نتيجة المنافسة غير المتكافئة، وشردت آلاف العمال.
وما نلمسه اليوم، من إعلانات متكررة حول التشاركية، وحول إجراء تحول عملي نحو خصخصة الاقتصاد، إنما يدل على استهتار الإدارة الاقتصادي، وإمعان منها في تهميش الرأي الآخر، وعدم تقديرها نتائج سياساتها الليبرالية الاقتصادية الجديدة المجحفة بحق أبناء الشعب السوري، وهرولتها نحو الاندماج بالاقتصاد العالمي، وهو في أشد حالات التأزم. يعد من أخطر النتائج المترتبة على هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية المتطرفة، هي أنها تخلق حراكاً اجتماعياً مخالفاً لتوجهات النظام السياسي، فهي إذاً تؤدي إلى إعادة توزيع الثروة والدخل باتجاه تركيزها بأيدي قلة، وبذلك فإنها تزيد الفجوة التي بدأت تتسع مع بداية السير بهذه السياسات بين الفئات الواسعة من أبناء الشعب الفقير والمتوسط الدخل، وأفراد قلة من المتسلقين على سلم الثروة على حساب ملايين السوريين الفقراء.
الخطورة في هذا التوجه، تكمن في انحسار الشرائح المتوسطة، وزيادة مستوى الحرمان لدى أكثرية السوريين، في الوقت الذي تتكدس فيه الثروات، وتزداد فيه عمليات النهب، وتترك غالبية الشعب في مواجهة مصيرهم، ومحاولة تأقلمهم مع هذا الواقع الاقتصادي لتأمين قوتهم وقوت أولادهم اليومي وسط مناخ من الفساد والانحراف».
النموذج الاقتصادي المطلوب
أما عن النموذج الاقتصادي المطلوب، فيؤكد د. الحمش أنه يكمن في «العودة إلى نموذج الدولة التنموية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة، والعمل على تدعيم وتشجيع قطاعات الإنتاج العيني (زراعة صناعة...) قبل فوات الأوان.
وربما يكون الإعداد للخطة الخمسية الحادية عشرة فرصة مناسبة لإسقاط الأوهام التي سيطرت على سياسات الإدارة الاقتصادية، والتي تمحورت حول إمكانية القطاع الخاص في إدارة شؤون الاقتصاد الوطني، وإمكانية الاستثمار الأجنبي في الإسهام بعملية التنمية، فضلاً عن أوهام اعتبار أن الانفتاح الاقتصادي هو العنصر الحاسم في عملية زيادة النمو الاقتصادي، وبالتالي هو القادر على رفع المستوى المعيشي للمواطنين.
المطلوب اليوم، هو العودة إلى التحليل العلمي الواعي للمعطيات الاقتصادية –والاجتماعية، ووضع القطاعات المنتجة في المكان الذي تستحقه، والتركيز على دور الدولة في الاستثمار العام.
إن المراهنة على قدرة القطاع الخاص على القيام بالاستثمار والحلول مكان الدولة قد سقطت أمام النتائج الكارثية التي أنتجتها الخطة الخمسية العاشرة، فالقطاع الخاص يبحث دائماً عن الربح، إن لم نقل الربح السريع، وهذا حقه، والاستثمار المنتج لا يحقق له أهدافه في الربح السريع، إذاً، فليتجه نحو المضاربات العقارية، والخدمات المالية والمصرفية، (اليوم تتاح له المضاربة في الأسهم والسندات والأوراق المالية بعد أقامة بورصة دمشق)، وإلى إقامة المولات الفخمة والمطاعم والمقاهي، وتجارة السيارات، وغير ذلك من أعمال شرعية أو غير شرعية.
إن أجواء المحاباة لأعماله التي تجهد الحكومة في تأكيدها إلى حد تسليمه (القلم الأخضر)، والتي وصلت إلى درجة قول أحد المسؤولين الاقتصاديين للمستثمرين «تعالوا أبوابنا مفتوحة لكم، قدموا مشورتكم، وسترون أنها تتحول إلى قرارات»!! وهذا كلام معلن ومنشور. وهنا لا بد من التنويه، إلى أننا لسنا ضد القطاع الخاص أبداً، لكننا مع القطاع الخاص المنتج الشريف الملتزم بقضية الاقتصاد الوطني، وهي التنمية.
إننا نسمع، ونقرأ، ملامح تحول آخر، في الفكر، إلى جانب الممارسة، فالسياسة الاقتصادية، تحتاج إلى داعم نظري، نجده عند البعض (من التقدميين للأسف)، من أنصاف المثقفين يسارعون لإعطاء المسوغ والمبرر للسياسات الليبرالية الاقتصادية المتطرفة، التي مضى عليها الزمن ( دعوا الرأسمال يمر، دعوه يعمل)، تلك المقولة التي تخلى عنها أصحابها منذ زمن بعيد، والتي أراد ريغان وتاتشر إعادة الاعتبار لها، فأوقعوا اقتصاداتهم والاقتصاد العالمي بأزمة مالية واقتصادية، ولا يبدو أن هناك آمالاً في تجاوزها، ولا يزال العالم يئن ويتوجع من تداعياتها.
عندما يروج الليبراليون الاقتصاديون الجدد، والمؤسسات المالية الدولية، لهذه السياسات المتطرفة فإنك تستطيع فهمها، أما أن يقفز بعض التقدميين أو الحزبيين فوق الحبال، ويقلبوا «الجاكيت»، ويهرولوا مع التيار السائد، فهذا أمر غير مقبول، وغير مفهوم، إلا في إطار الإعلان عن أنفسهم في خدمة التحول بالاقتصاد الوطني نحو اقتصاد السوق عن طريق الصدمة، التي ذاقت منها شعوب العالم الأمرين».
ما العمل؟
ليس أمامنا من طريق سوى العودة إلى متطلبات التنمية المستقلة بالاعتماد على الذات، مع التحرر من القيود المسبقة الصنع، والتحرر من مصالح الآخرين وقروض الخارج، والتمسك بهدف بناء قوة اقتصادنا الوطني، ففيه تتعزز قوة الدولة، وبها ندعم قوتنا التفاوضية مع الخارج، أو ما تحاول قوى السوق العالمية فرضه علينا، وما تحاول قوى الاستعمار الجديد زجنا في سياق المشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية، والتي هي سياق العبودية والاستسلام.
تنبع قوتنا التفاوضية مع الخارج من قوتنا العسكرية التي نفخر بها، المعززة بقوة اقتصادنا، لكن طريق السياسات الاقتصادية الليبرالية أدى ويؤدي إلى إضعاف الاقتصاد، وتهميش الشعب، وتهديد السلم الاجتماعي، في آن واحد.
وهذا الطريق، يجد القطاع الخاص مكاناً متميزاً، من خلال الإسهام الجدي في التنمية ومشاريعها، والمشاركة مع القطاع العام، وعلى أن تبقى مشاريع البنية التحتية (مطارات، مرافئ، طرق دولية، مرافق عامة، كهرباء...) من مسؤولية الدولة، فهذه القطاعات على تماس مباشر بالأمن القومي والوطني، ولا يجوز التفريط بها، وللقطاع الخاص أن يستثمر في قطاعات الاقتصاد الأخرى وهي قطاعات واسعة ومربحة.
إن النموذج التنموي الذي يلبي الاحتياجات، ويتجاوز السلبيات والخلل الذي سببته السياسات الاقتصادية والمالية التي أنتهجها الفريق الاقتصادي في السنوات الأخيرة، هو النموذج الذي يعيد التوازن إلى الاقتصاد الوطني، ويحقق مستوى المعيشة اللائق لأبناء الشعب، ويقضي على الفوارق الاجتماعية، ويحافظ على السلم الاجتماعي، ويعيد الدولة إلى الاستثمار العام، ويقضي على البطالة (خاصة بين الشباب). إنه النموذج الذي يستطيع به الاقتصاد الوطني الوقوف على ساقين:
- الإنتاج والاستهلاك (العرض والطلب).
- القطاع العام والقطاع الخاص.
- الموارد البشرية والموارد العينية.
- الاستثمار والادخار.
- القطاعات المنتجة والقطاعات الخدمية.
- الأجور والأسعار.
- مقتضيات الدفاع ومتطلبات التنمية.
- المعرفة وتوطيد التكنولوجيا.
- الصناعة والزراعة.
إن الالتحاق بالاقتصاد العالمي، والاندماج بالعولمة قبل تمكين الاقتصاد الوطني وتقويته لن يؤدي في ظل التقسيم الدولي للعمل الجائر القائم حالياً إلا إلى المزيد من التهميش لاقتصادنا ولبلدنا، وسيؤدي أيضاً إلى استمرار التبعية الاقتصادية، والمالية، والتكنولوجية، وما ينجم عن ذلك من نتائج وتداعيات سياسية، في حين إن بناء اقتصادنا القوي سيجعل بالإمكان التعامل مع العولمة ومع الاقتصاد العالمي على مستوى الندية والمساواة بما يحافظ على مصالحنا الوطنية، ويحفظ كرامتنا القومية.
د. نبيل مرزوق:
هوية الاقتصاد السوري غير واضحة!
أما د. نبيل مرزوق، فقال ما يلي:
«لدى الإطلاع على الأسئلة المطروحة من جريدة قاسيون، يتبين للقارئ المتابع للشأن الاقتصادي في البلاد، أنها بعيدة نسبياً عن واقع وهموم الاقتصاد والمجتمع السوريين، وأحسن ما يمكن وصفها به هو أنها «ناييف»، وفي تعبيرنا المحلي أسئلة ساذجة. فالسؤال الأول يتحدث عن نموذج للاقتصاد السوري، هل هناك نموذج فعلاً للاقتصاد السوري؟ وإذا كان هناك نموذج في رأي السائل، ما هو هذا النموذج؟ وما هي ركائزه؟ والسؤال الثاني متاهة فعلية، هل يفكر السائل فعلاً أن سورية يمكن أن تغير من موقعها في قسمة العمل الدولية مستفيدة من أزمة النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي؟ وهل تغيير الموقع في قسمة العمل الدولية رهن بقرار من الحكومة العتيدة؟ السؤال الأخير لا يتحدث عن أي نظام اقتصادي مرغوب تطويره، فحسب اتجاه التطوير والمستفيدين من التطوير تتحدد، الموارد ومصادرها. الأسئلة المطروحة تتجاهل العنصر الرئيسي في النظام الاقتصادي، وهو طابعه الطبقي وميزان القوى الطبقي والاجتماعي، الذي يحدد طبيعة النظام وغاياته.
وكي لا تكون هذه المقدمة ذريعة لعدم الإجابة على الأسئلة المطروحة، هذه محاولة للإجابة بشكل مختصر ومكثف.
ج1- بداية لابد من الاعتراف أن ما يدعى «النموذج الاقتصادي القائم»، هو في الواقع لا يندرج في إطار «نموذج»، حيث يفترض النموذج انسجاماً داخلياً وعلاقات واضحة بين مكونات النموذج، وغايات وأهدافاً واضحة ومحددة. تم تبني التوجه نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» في المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، ولكن هذا التبني لم يكن واضحاً، ولم يعتمد نموذجاً محدداً، كما لم يترافق بسياسات وبرامج تقود إلى تحقيق ذلك الهدف، وبعد مضي خمس سنوات على هذا التبني، ما زالت هوية الاقتصاد السوري غير واضحة، ولم يلمس الاقتصاد الاجتماعي أو السوق الاجتماعي، وأصبحت معاناة المواطنين أكبر في الحصول على لقمة العيش، وازداد في صفوفهم الفقر واتسعت البطالة، وتفاقم تفاوت الثروة والدخل، وإذا كانت هذه النتائج هي نتائج التطور الرأسمالي التقليدية، إلا أنها تتم في غياب ضوابط النظام الرأسمالي، وآليات السوق التي يحرص رأس المال على حريتها؛ إنها تتم في ظل فوضى اقتصادية وسياسات متناقضة، فحرية الأسواق تتم بشكل انتقائي يحافظ على سيطرة شبه احتكارية، وفي الوقت الذي يروج فيه لحرية السوق وآلياتها، يفتقد المجتمع أية آلية للدفاع عن مصالحه، وحماية حقوقه، أيضا في الوقت الذي تحرر فيه جميع الأسواق، وتحرص الحكومة على عدم التدخل فيها لتحقيق بعض التوازن، تبقى سوق العمل وقوة العمل مقيدة بقوانين ولوائح، تحدد الأجور بقرارات ومراسيم، وليس وفق آليات العرض والطلب التي ينادى بها لبقية الأسواق. إذاً: ما يدعى بالنموذج الاقتصادي السوري، هو مزيج من حرية السوق المطلقة، وشبه الاحتكار في العديد من الأسواق، والتدخل الحكومي الصارم في بعض المجالات، وغياب تام لدور الحكم والموازن في السوق، وافتقاد لآليات التدخل المؤسساتي، نتيجة هشاشة مؤسسات السوق وضعف تطورها. الاقتصاد السوري يمر بمرحلة انتقالية باتجاه السوق الرأسمالية الحرة، وهو يعاني شأن أية مرحلة انتقالية غير مرتبطة بأهداف واضحة ومحددة، من عدم انسجام السياسات وعدم التوازن في مستويات التحرير والتدخل.
أما بالنسبة للنموذج المطلوب، فهنالك أكثر من نموذج يمكن أن يكون بديلا أفضل عن الوضع الحالي، إلا أن تحديد النموذج يرتبط بميزان القوى الاجتماعي السائد، فحصيلة الميزان هي التي تفرض النموذج، وليست الرغبات والإرادة الطيبة للبعض، ويتضح أن ميزان القوى الفعلي اليوم هو في مصلحة رأس المال الاحتكاري والمغامر، وتغيير هذه المعادلة يتطلب مستوى من الحريات يتيح للقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير والتقدم، أن تقيم مؤسساتها وهيئاتها التي تنظم صفوفها وتوحد إرادتها في معركة طبقية لابد من خوضها لانتزاع الحقوق ورسم مستقبل أفضل.
أزمة آنية؟
ج2- الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الحالية، هي أزمة آنية وإن كانت بنيوية، أي بمعنى مدتها الزمنية المحدودة، طالما أنها لن تفضي إلى تغيير جوهري في النظام الرأسمالي العالمي، الذي يعيد إنتاج أزماته على أعتاب كل مرحلة من مراحل تطوره، وبالتالي فإن قسمة العمل الدولية هي جزء من النظام وإحدى آلياته للمحافظة على أدوار القوى المهيمنة على النظام، وآلية من آليات النهب والاستغلال فيه، وتبين التجربة التاريخية لمختلف الدول، أن «القطيعة» بالمعنى الذي يعبر عنه سمير أمين، هي الوسيلة الممكنة لتغيير الموقع في قسمة العمل الدولية ولكسر حلقة التبعية، والقطيعة بهذا المعنى هي خيار نظام غير مندمج، وينتمي إلى نموذج تنموي وطني مستقل، وهو خيار اجتماعي وسياسي تفرضه قوى اجتماعية تمتلك سلطة القرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وتتطلب هذه العملية استقرارا واستمرارية في الخيارات والتوجهات لفترة طويلة نسبيا، تتيح إحداث التغيرات البنيوية المطلوبة على صعيد قوى وعوامل الإنتاج. إنه ليس قرارا يتخذ في مجلس، وإنما هو استراتيجية متكاملة بعيدة المدى يرسمها ويعمل على تنفيذها، إجماع شعبي وطني، وهذا ليس فعلا طارئا أو ردة فعل على حدث أو أزمة عابرة، منذ الاستقلال عام 1946 وحتى الآن، طمحت سورية إلى هذا التغيير ولكنها لم تمتلك الأدوات المطلوبة، والتي في رأسها الإرادة السياسية والاجتماعية لإحداث التغيير المطلوب، وعجزت خطط التنمية عن أن تكون خططاً ذات بعد استراتيجي، تحظى بإجماع وطني. ج3- لقد ازداد معدل الادخار في السنوات الماضية، ولكن معدل الاستثمار انخفض، مما يعني أن الادخار المحلي لا يتحول تلقائياً إلى الاستثمار، وقد أكد هذه النتيجة، تنامي الاستثمارات السورية في الخارج، بالإضافة إلى الودائع والأصول الأخرى في الخارج لمموّلين سوريين، مما يعني أن هناك فوائض في الاقتصاد الوطني ولكن لا يعاد استثمارها في البلاد، وهي تشكل نوعاً من هروب الرساميل، إلى جانب هروب الكفاءات.. جزء من هذه الأموال كان ثمرة الفساد، الذي يحاول الخروج من البلاد لتغيير جلده، واكتساب صفة رأس المال. بشكل عام تستطيع سورية تحقيق تنمية عادلة ومستدامة، بمواردها الذاتية إذا استخدمت بالطريقة المناسبة، وهذه الموارد يمكن تحريرها بالقضاء على الفساد، والتوزيع غير العادل للثروة، وبنظام ضريبي اقتصادي تنموي وليس بنظام ضريبي جبائي محاب لرأس المال والثروة. بينت التجربة أن التوزيع العادل للدخل والثروة عامل أساسي في التنمية المستدامة، والعكس في حال تمركز الثروة و«الإيمان» بالتسرب نحو الأسفل، يمكن أن يحقق فقاعات وهبات سرعان ما تخمد بعد أن تكون قد التهمت مقومات النمو والتطوير».