مشروع قانون الاتصالات الجديد.. والخصخصة
سمعنا خلال العام المنصرم مصطلحات من قبيل الانفتاح والاستثمار والتشاركية حتى أصبنا بالتخمة، وطالت محاولات «الانفتاح والتحديث» الجانب التشريعي بشكل غير مسبوق، حيث جاءت مشاريع التعديلات التشريعية في مجملها تعكس اتجاهات واضحة نحو الخصخصة واللبرلة وتهيئة البنية التشريعية للانتقال من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق، وكانت الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل الطويل طرح مشروع قانون جديد للاتصالات.
ويحمل هذا المشروع في طياته تغييراً جوهرياً في بنية الآلية المتبعة حالياً في إدارة قطاع الاتصالات، وأهم مظاهر هذا التغيير كان النص على تحويل المؤسسة العامة للاتصالات إلى شركة عامة، كي تتمكن من امتلاك المرونة والقابلية والقدرة على العمل والاستثمار.. وفق ما جاء في الأسباب الموجبة لطرح القانون التي أعلنتها وزارة الاتصالات. وهذا يعني بالمعنى الحقوقي، إخضاعها لقانون التجارة، وتمكينها من الاستثمار بعقلية القطاع الخاص، مما قد يمكنها من إدخال مشغل قوي ومنافس في قطاع الخلوي على سبيل المثال، الأمر الذي من الممكن أن يزيد عوائد خزينة الدولة من قطاع الاتصالات، ويؤمن نوعاً من المنافسة في كلفة الاتصالات وجودة الخدمات. وربما هذا ما دفع العديد من أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين في قطاع الاتصالات إلى معارضة هذا التحول في الشكل القانوني للمؤسسة العامة للاتصالات.
وننطلق في تقييمنا الأولي لهذا الطرح من تساؤل أساسي: ترى ماذا يفيد تحويل المؤسسة إلى شركة، إذا كانت إدارة هذا القطاع ستستمر بالعقلية القائمة نفسها، وربما حتى من قبل الأشخاص أنفسهم؟. وهذا لا يعني أننا لا ندرك أهمية هذا التحويل، إلا أن الواقع يثبت أن السبب في ضعف عوائد قطاع الاتصالات، هو العقلية العقيمة في إدارة هذا القطاع، وعدم وجود نوايا حقيقية لاستثماره لمصلحة الاقتصاد الوطني، والفساد الذي ينتشر في هذه المؤسسة، كما ينتشر في غيرها من المؤسسات العامة. وبالتالي فإن التغيير الحقيقي يجب أن يكون في أسلوب التخطيط والإدارة والمحاسبة في مؤسسات القطاع العام، وبعدها يأتي التغيير في الشكل القانوني لهذه المؤسسة أو تلك كاستكمال لمستلزمات هذا التغيير. ولكن الأهم في هذا السياق، أن الدولة ذات السيادة، ليست بحاجة لتحويل المؤسسة إلى شركة لتفرض على القطاع الخاص المستثمر في أي مجال من المجالات تأمين خدمات ممتازة وبأسعار مناسبة.
وهكذا فلم يبق أمامنا إلا الاستنتاج أن تحويل المؤسسة إلى شركة ما هو إلا خطوة على طريق خصخصتها، وهو الطرح الذي رفضه وزير الاتصالات بشدة، على أساس أن ملكية الشركة سوف تبقى للدولة، وفق نص المشروع المطروح.
ولكن ماذا يعني النص في الأسباب الموجبة لطرح المشروع الجديد على أنه «في مرحلة ثالثة، يمكن طرح جزء من أسهم الشركة للعاملين في الشركة، أو حتى للتداول العام»؟، وإذا لم يكن هذا النص مؤشراً واضحاً على النية المبيتة لخصخصة قطاع الاتصالات بالكامل، فكيف يكون الاتجاه للخصخصة؟....
يمكن القول إن هذه الإشارة للخصخصة على استحياء، ومحاولة إنكارها لاحقاً، تدل على إدراك الحكومة لخرقها الفاضح للدستور الذي يتبنى الاشتراكية ويمنع بيع القطاع العام، وتؤكد أيضاً على أنها ماضية في مشروعها رغم إدراكها هذا.
إن الاتجاهات المعلنة والمبيتة للحكومة على حد سواء، تحمل مؤشرات خطيرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما أنها تعتبر كارثة على المستوى الحقوقي، لأن هذا الاستهتار بالمشروعية والدستورية، يخرب المفاهيم الحقوقية في وعي المجتمع، ذلك أن نصوص الدستور التي تجاوزتها هذه الحكومة مراراً، تبقى بصرف النظر عن مضمونها، المرجعية الأولى والعليا والملزمة لهذه الحكومة ولأية حكومة أخرى، وإن أية قرارات تصدر عن السلطة التنفيذية، أو قوانين تقرها السلطة التشريعية، خلافاً لنصوص الدستور، ودون تغيير هذه النصوص وفق الآليات الشرعية، هي قرارات وقوانين باطلة وفاقدة لكل مشروعية.